[افتتاحية العدد الأخير من «الآن» -حزيران 2024- الصادرة عن حزب العمل الشيوعي في سوريا]
تختم الحرب في غزّة شهرها الثامن! ثمانية أشهر كاملة ولم يستطع جيش الفاشيين الصهاينة أن ينتصر عليها! ثمانية أشهر شكّلت المفصل الأهم في القضية الفلسطينية منذ عام 1948! تمّ فيها تحطيم أساطير، وصناعة بطولات، وإظهار وحشية الكيان الصهيوني، الوحشية التي تمّ إخفاؤها خلال عقود وعقود.
فأسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر مرّغها المقاومون الفلسطينيون بالوحل منذ الأيام الأولى بعد 7 تشرين الأول من العام الفائت! فهذا الجيش الذي أشاع الأساطير عن نفسه بمعاونة أجهزة الإعلام الغربية المتواطئة، والذي طالما فاخر كيف هزم ثلاثة جيوش عربية في ستة أيام غرز المقاومون الفلسطينيون آلاف السهام في مقدّمته ومؤخّرته! وكلها تعلن للعالم أجمع أن قوة المقاومة مهما صغرت فهي أقوى من قوى البغي والاحتلال والاستيطان والدعم الغربي مهما كبرت! هكذا استطاع مئات المقاومين هزيمة الجيش الصهيوني المشكّل من عشرات آلاف الجنود والضباط والمزوّد بأحدث الأسلحة وأعتاها وأشدّها فتكاً، شر هزيمة بقوة الإرادة وقوة التخطيط وقوة الإمساك بالقضية بأيديهم وليس بأيدي سواهم... مهما ادّعى ذلك الـ«سواهم» من حرص عليهم وغيرة على قضيتهم.
إنه درس لكل شعوب العالم، وكل الشعوب العربية في أنه لا يمكن هزيمة الشعوب عند توفر الوعي والتنظيم والتخطيط المناسب.
أحدثت الأشهر الثمانية الماضية نقلة نوعية في الرأي العام العالمي تجاه القضية الفلسطينية. فهذه القضية التي طالما سوّقها الإعلام الصهيوني بمؤازرة الإمبرياليات الغربية وبمعاونة أجهزة إعلامها الواسعة بأنها قضية عادلة للمستوطنين الصهاينة الذين نجوا من محارق النازيين في الحرب العالمية الثانية! والذين يعتدي عليهم «الإرهابيون» الفلسطينيون، والمحاطين بدول عربية معادية لهم! أظهرت الأشهر الماضية زيف هذا الادّعاء المناقض لأبسط حقائق الواقع، والذي يتلخص في كون «الدولة الإسرائيلية» ليست إلا مشروعاً إمبريالياً للسيطرة على المنطقة، والتي بنت وجودها على عشرات الحروب والاعتداءات والمجازر وأعمال التهجير بحق الشعب الفلسطيني صاحب الأرض، وحق الشعوب العربية المحيطة، وبناءً على ذلك يظهر الصهاينة وجيشهم بأوضح الصور كجيش عنصري مجرم يمارس أعمال القتل والتدمير الممنهج ويعتدي على المدنيين من رجال ونساء وأطفال، ويهدم الأحياء ويحرق الخيام ويقصف المستشفيات ويقتل كل من يقع تحت نيرانه الهمجية. كل ذلك دفع شعوب العالم إلى تحركات واسعة في شوارع العالم، وفي شوارع العواصم الغربية التي تؤيد حكوماتها الإمبريالية كل التأييد للإجرام الصهيوني، ورأينا كيف سارت مئات بل آلاف التظاهرات في مختلف العواصم، وكيف تحرّك الطلاب الجامعيون في الغرب، وفي الولايات المتحدة الأميركية ضد سياسات حكوماتهم، وهو الأمر الذي لم ترَ مثله الجامعات منذ حرب فييتنام في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي! ولا تدخل التظاهرات في أي مماحكات سياسية، فهي تقف موقفاً إنسانياً ناصعاً مع الضحايا، ضد القتل، وضد التهجير، وضد التدمير، وتدين العدوان الصهيوني باعتباره جريمة حرب ويجب تقديم المجرمين إلى المحاكمات الدولية. وبالرغم من عناد الحكومات الغربية، وتأييدها بطرق مختلفة للعدو والعدوان، فإن إرادة الشعوب ستنتصر في النهاية مهما عاندت الحكومات الإمبريالية وتواطأ قادتها تواطؤهم المخزي مع الفاشيين الصهاينة. وكل البلدان الغربية مقبلة – طال الوقت أم قصر – على انتخابات، وسنرى كيف ستعاقب الشعوب حكامها السفلة شر عقاب، فالوقوف مع القتلة لا يبرّره أي منطق ولا أيّ مماحكات سفسطائية.
بالطبع إن كل ذلك لم يأتِ دون ثمن، وثمن باهظ جداً، فالمقاومون بشر من لحم ودم وليسوا سوبرمانات، وهم يدفعون خسائرَ مؤكدة، بالأرواح والإصابات القاتلة والأعطاب الحتميّة، غير أن الوقائع تقول إن إرادة المقاومة أقوى، وإصرار المقاومين أعلى من كل التضحيات. ولا بد من الإشارة إلى أن كل تلك التضحيات تبدو ضئيلة أمام تضحيات الشعب الفلسطيني الباسل والذي تجاوز عدد ضحاياه الـ 35 ألف إنسان، وعدد المصابين تجاوز الـ 77 ألفاً، فضلاً عن تهجير مليوني فلسطيني من مختلف مناطق غزّة الى جنوبها، بعد تدمير عشرات آلاف البيوت والمباني والمستشفيات فوق رؤوس ساكنيها.
الكلفة الإنسانية باهظة، وباهظة جداً، غير أن إرادة الحياة لدى شعبنا الفلسطيني أعلى من التضحيات، وأقوى من كل أشكال الإجرام الصهيوني البشع.
ولا بد من الإشارة إلى الأصوات التي ترتفع هنا وهناك لتقول: كيف تؤيدون – أنتم اليساريين – حماس وكتائب القسام والجهاد الإسلامي وسرايا القدس؟ وهم من هم كفصائل دينية؟ الحقيقة لا يشكل لنا ذلك أي منغّص. وهويتنا اليسارية الماركسية معروفة ومعلنة على رؤوس الأشهاد منذ ما يزيد على أربعة عقود. ذلك لأننا نفهم أن المعارك الوطنية هي شأن كل المواطنين وكل الوطنيين مهما كانت صبغتهم السياسية، وخلافاتهم السياسية، فالجميع في قارب واحد يميناً ويساراً، ولدى الجميع عدو واحد هو الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، هي إذاً مرحلة تحرر وطني. وإعلان الخلافات السياسية اليوم لم ولن يخدم إلا العدو! أي إننا نعمل وفق: «نحتفظ برأينا، نؤجل خلافاتنا، ونصوّب معاً على العدو الواحد». وسيأتي وقت تُعلن فيه الخلافات السياسية عندما يتحقق للشعب الفلسطيني دولته الواحدة المستقلة من البحر إلى النهر. كل ذلك مؤجّل اليوم أمام الصراع مع آلة الاستيطان الصهيوني وداعميها من تماسيح الإمبرياليات الغربية والعربية. وعليه سنقف مع كل جهد، وكل رصاصة، وكل مقاومة في مواجهة آلة الدمار والقتل الإسرائيلية، علماً أن من صنعوا مأثرة السابع من تشرين لم يكونوا فصيلاً واحداً بل جملة فصائل فلسطينية بيمينها ويسارها ومنهم مساهمة رفاقنا في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.