النظام العالمي المعاصر يشهد فوضى عارمة الحركة الطالبية جزء من تاريخ تصفية الاستعمار

كريستوفر تشيس دان، أستاذ علم الاجتماع ومدير معهد «بحوث النظم العالمية» في جامعة كاليفورنيا (ريفرسايد)، ومؤسّس مجلّة «بحوث النظم العالمية»، أقام العديد مِن البحوث التي تركّز على المدن ونظم التوطّن مِن أجل تفسير التطوّر السوسيوثقافي البشري، ودراسة العلاقة بيْن مختلف النظم التاريخية والنظام العالمي الرأسمالي المعاصر. هو مؤلّف كتاب «التكوين الكوني: بنى الاقتصاد العالمي»، الذي يُعدّ مِن أهمّ الكتب لدى محلّلي النظم العالمية. وشارك في تأليف كتابي «التغيُّر الاجتماعي: العولمة مِن العصر الحجري إلى اليوم» و«النضال الكوني وحركات التغيُّر الاجتماعي». في هذه المقابلة، نفحص وقائع اللحظة ضمْن التاريخ البنيوي للنظام العالمي المعاصر. يرى تشيس دان أنّ النظام العالمي يواجه مشكلاتٍ بيئيّة وصراعات متصاعدة، وأننا نعيش لحظة تغيُّر بنية السلطة الكونية. فالعولمة الرأسمالية الليبرالية الجديدة تقترب مِن نهايتها، والمنافسة الدولية تزداد حدّة مع تصاعد نظامٍ متعدّد الأقطاب تتراجع معه الهيمنة الأميركية. يعتبر أنّ الحرب في أوكرانيا وغزة كارثيتان، وأنّ الإبادة في غزّة قادت إلى تشكُّل موجة جديدة مِن التضامن العالمي مشابهة لما حدث عام 1968 مع بعض الاختلافات

لنستهل هذه المقابلة بتقديم لمحة عامة عن العالم الذي نحيا فيه وكيف نفهمه: كيف ترى عالم اليوم، في لحظة حافلة بالصراعات والتحوّلات، مِن خلال تحليل النظم العالمية؟

يدرس منظور النظم العالمية، المقارِن والتطوريّ، نشأة النظم العالمية الصغيرة والمتوسّطة والكبيرة الحجم منذ العصر الحجري وحتى اليوم، في سبيل شرح الأسباب التي جعلت نظم المجتمعات البشرية أكبر حجماً وأكثر تعقيداً وهرميَّة. يقترب اليوم برنامج العولمة الرأسمالية الليبرالية الجديدة مِن نهايته، لأنّ نقل التصنيع إلى البلدان ذات الأجور المنخفضة آتى ثماره بالفعل بمكاسب كبيرة يُحصّلها رأس المال بفضل تلك العمليّة، ولم يزل مَن خسروا نتيجة ذلك غير راضين، وأصبحت المنافسة والصراع بين النخب وفي النظام الدولي أكثر حدّة. ومع ذلك، ما زال بالإمكان، حتّى في ظلّ الثورة الديموغرافية (انخفاض معدّلات الوفيات متبوعاً بانخفاض معدّلات المواليد)، أنْ يتزايد عدد سكّان الكوكب، ومِن المتوقّع أن يصعد إلى ذروته في منتصف القرن الحادي والعشرين ليراوح بين 10 و12 مليار إنسان، ما يعني أن الضغط السكّاني سيظلّ قويّاً.
تواجه الهيمنة الكونية للولايات المتحدة تحدّياً تفرضه القوى شبه الطرفية الصاعدة (مجموعة «البريكس»: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا)، ويدخل النظام العالمي فترةً أخرى مِن التعددية القطبية، تتشابه بنيوياً مع الفترة الممتدّة بيْن أواخر القرن التاسع عشر ومستهلّ القرن العشرين، عندما كانت الهيمنة البريطانية في تراجع. الجديد هنا هو الاندفاع السريع لظاهرة الاحتباس الحراري التي يسبّبها الإنسان، والتي مِن المرجّح أنْ تؤجّج الصراع داخل المجتمعات القوميّة وفي ما بينها، ما سيجعل مناطق كبيرة مِن الكوكب غيْر صالحة للسكن. في الواقع، لا تملك المؤسّسات الدولية التي نشأتْ في القرن العشرين قدرات الحفاظ على السلام العالمي، في عالمٍ يتعرّض – على نحوٍ متزايد – لتطوّر غير متكافئ واضطرابات كارثية كبرى. أرى أنّ النظام العالمي المعاصر يشهد فوضى عارمة.
يوضحُ تاريخُ وتطوّر النظم العالمية منذ العصر الحجري أنّ الماضي مليء بفترات عديدة انهارت فيها النظم الاجتماعية، وفقدت السلطات شرعيتها، وأدّت الصراعات الكبيرة إلى كوارث هائلة قُتل فيها الكثير مِن الناس، على يد أُناسٍ آخرين والمجاعات والكوارث. لكن على أي حال، توضح الأبحاث المُجراة على أحجام المدن والوحدات السياسية الكبيرة أنّ جميع هذه الفترات أعقبتها في النهاية فترات انتعاش، شُيِّدَت فيها مؤسّسات جديدة سمحتْ باستمرار الزيادة في أحجام وتعقُّد المجتمعات البشرية. كانت «أزمنة المِحَن» (بكلمات أرنولد توينبي) هذه بمثابة آليات للانتقاء، وكانت المجتمعات التي اكتشفت طُرقاً للبقاء، وإعادة تأسيس التعاون والاستقرار، هي الرابحة. إنّ وطأة التحدّيات الحاليّة ستكون ثقيلة بالنسبة إلى أعداد كبيرة مِن الناس، ولكنّ الأغلب أنْ يبقى جنسنا البشري على قيد الحياة، ويواصل في النهاية توسّعه في مناطق أخرى مِن النظام الشمسي لم يسكنها البشر بعد. وستستمرّ التحدّيات الجديدة في الظهور، وستشهد النظم البشرية المستقبلية فترات كثيرة تشبه الحاضر إلى حدّ ما. هذه أخبار سارّة لِمَن يعانون الاضطرابات القائمة والمستمرّة للعقود القليلة القادمة، ولكنها تعني أنّ قصّة جنسنا البشريّ لن تصل إلى نهايتها في القريب العاجل.

يُمكّننا الإطار الذي تطرحه مِن فَهم تعقيدات المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني في فلسطين والعالم العربي: كيف ترى الكفاح الفلسطيني والعربي للتحرر من نير الاستعمار والإمبريالية، في سياق تاريخ الحركات الاجتماعية التي تتحدّى الهيمنة وبنية السلطة الكونية؟

الخبر السارّ أنّ النظام العالمي الحديث شهد موجات مِن تصفية الاستعمار، منذ أواخر القرن الثامن عشر ومستهلّ القرن التاسع عشر، وأنّ بُنية سياسية كونية أكثر مساواة وديموقراطية سياسياً أخذت تتشكّل ببطء، حيث تمأسست بعض أشكال المساواة العالمية، حتّى وإنْ كانت ضعيفة كما هو حال الجمعية العامّة للأمم المتّحدة. وأُلغيَت العبودية المُقنَّنَة والقنانة في القرن التاسع عشر. ولكن ظهرت أيضاً الأشكال المؤسّساتية للقوّة لتحلّ محلّ الاستعمار التقليدي، وبقيت أنظمة الفصل العنصري قائمةً في بعض البلدان حتّى يومنا هذا. ومِن ثمّ لَم تزل التفاوتات ضخمة، على الصعيد العالمي وداخل كلّ دولة.
تُعتبر حالة فلسطين فريدة نسبياً، لأنّ جهود إقامة «مساحة آمنة» ليهود أوروبيين مُضطهَدين بَعد الحرب العالمية الثانية أدَّت إلى تهجير الفلسطينيين واضطهادهم، ولم يزل هذا الوضع قائماً حتّى اليوم كما توضح الحرب المأساوية الجارية. أعتقد أنّ الأوان لم يَفُت بعد، وما زال بالإمكان تصحيح بعض الأخطاء التي ارتُكبت في سبيل إقامة هذه المساحة. بإمكان دولة قومية جديدة على أراضي فلسطين التاريخية أن تضمن حقوق المواطنين في اعتناق أي دينٍ يفضّلون، ضمن دولة علمانية واحدة، إلى جانب ضمان الحقوق السياسية والاقتصادية لجميع العرب واليهود وغيرهم. ما زال ممكناً تحقيق هذه الغاية مِن خلال عمليّة إعادة الهيكلة التي يدعمها المجتمع الدولي، خاصّة الأمم المتحدة والولايات المتّحدة، ولكن أيضاً دول الطوق وتلك المجاورة، والأفراد والحركات الاجتماعية الساعين للعدالة الكونية. بمقدورنا أن نبني عالماً أفضل.

في حين تتواصل حرب أوكرانيا، مع إصرار أميركي على المواجهة يصطدم بقرار بوتين غيْر المسبوق بتزويد الدول التي تحارب الولايات المتحدة وحلفاءها بالسلاح، يتجلّى في فلسطين اصطفاف الولايات المتحدة وحلفائها مع إسرائيل لكن الجديد في معركة «طوفان الأقصى» أنّ حلفاء الفلسطينيين في محور المقاومة لديهم فاعليّة ملموسة في أرض المعركة... هل سيترك ذلك آثاراً على الهيمنة الأميركية؟

كما ذكرت أعلاه، الهيمنة الأميركية تتراجع ببطء. والحروب في أوكرانيا وفلسطين دليل على ذلك، رغم أنّ الهجوم الروسي على أوكرانيا أدّى جزئياً إلى تحسين موقف الولايات المتحدة مقابل أوروبا وحلف شمال الأطلسي. كلتا الحربين كارثيتان ويجب إنهاؤهما في أسرع وقت ممكن. سيتعين على أوكرانيا في نهاية المطاف التفاوض مع روسيا بشأن شبه جزيرة القرم والأقاليم الشرقية. ومعظم سكّان شبه الجزيرة يفضّلون أن يكونوا جزءاً مِن روسيا. إذاً، أنْ يحدث ذلك عاجلاً خيرٌ مِن حدوثه آجلاً. وضروري أنْ تنشأ داخل الولايات المتحدة حركة سلام قوية، تُخرج المجمع الصناعي العسكري مِن سيطرة السياسة الخارجية الأميركية. بالنسبة إلى تجّار الأسلحة، تُعتبر الحروب بالوكالة طريقة جيّدة لاختبار منتجاتهم. ولم تزل روسيا تمتلك أسلحة نووية مِن مخلّفات الحقبة السوفياتية، إلى جانب عددٍ كبير مِن السكّان على استعداد لحَمل أكفانهم والموت في حروب التخوم، فضلاً عن أنّ لديها ما يكفي مِن صادرات النفط والمواد الخامّ الأخرى، لتغطية تكلفة المغامرة العسكرية.
كلّ هذا متوقّع مِن اقتصاد عالميّ يولِّد التناقضات أكثر مِن الحلول، ونظام دوليّ بات متعدّد المراكز ومضطرباً على نحوٍ متزايد. بعد انتهاء «زمن المِحَن» الحالي هذا، يمكن أنْ يستمرّ الاتّجاه الطويل المدى نحو ديموقراطية ومساواة عالميتين، إذا رسمت الحركات الاجتماعية التقدّمية المسارات لذلك العالم خلال الفترة الانتقالية. إنّ تشكيل حكومة عالمية فيدرالية ديموقراطية واشتراكية بيئية، تجعل الحرب غيْر قانونية وتطبّق القانون، جزءٌ مِن هذا الحلّ الطويل المدى. ويمكِن لدول «البريكس» شبه الطرفية التي تتحدّى هيمنة الولايات المتحدة أنْ تساعد أيضاً في تحقيق ذلك، إذا أصبحوا جادّين بشأن انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون، ونظام نقدي عالمي أكثر مساواة. حتّى اليوم، لم تعلن دول «البريكس» إلا بعض هذه الأمور (مثْل التخلّص مِن الدّولَرَة) بصفتها أهدافاً، لكنها مع ذلك لم تتقدّم حتّى الآن بقوّة لتنفيذها. وتُعدّ تصرّفات جنوب أفريقيا التي وصفت الحرب الإسرائيلية الجارية في غزة بأنها إبادة جماعية، استثناءً جزئياً ملحوظاً، ولكن بالمثل لم يعقبها حتّى الآن منع تصدير الفحم إلى إسرائيل.

أدّت الإبادة الجماعية للفلسطينيين وتوسّع ميدان المعركة إلى نشوب احتجاجات واسعة في الغرب. يُنظِّم الطلّاب اعتصامات وإضرابات وحركات مقاطعة. ما الفارق بيْن موجة التضامن العالمي هذه و«الثورة العالمية لعام 1968» وفق تعبيرك؟

في الستينيّات، حاولتُ مع طلّابٍ آخرين ونشطاء مناهضين للحرب إيقاف قطارات القوّات وشاحنات النابالم احتجاجاً على الحرب في فييتنام. وفي مستهلّ أيّار/مايو الماضي عندما أقامت منظّمة «طلاب من أجل العدالة في فلسطين» مخيّماً في جامعتي انضممت إليهم، وقضيت ليلة في إحدى الخيام. أَوجُهُ التشابه بين الحدثين مهمّة؛ تستخدم حكومتنا أموال ضرائبنا لتوريد الأسلحة التي تُقتل بها الشعوب المقاتلة مِن أجل تحرّرها. وكلا الحدثين جزءٌ مِن التاريخ العالمي لتصفية الاستعمار الموصوف أعلاه.
لكن لكلا الحدثين سياقات وتنظيمات مختلفة. كانت الثورة العالمية لعام 1968 بمثابة ثورة الطلّاب والشباب في العديد مِن البلدان، مصحوبةً بظهور اليسار الجديد الناقد للمجتمع البرجوازي واليسار القديم في آنٍ واحد. وشكَّل الفشل الواضح للحركة العمّالية العالمية، بأحزابها ودولها، عاملاً قاد إلى ظهور حركات المقاومة الجديدة، التي تشمل على سبيل المثال حركات المقاومة الإسلامية.
في نهاية المطاف، ساعدت الحركة الطالبية بالولايات المتّحدة في إنهاء الحرب في فييتنام، ولكنها حفّزَت أيضاً ظهور حركة مضادّة، أصبحنا نسمّيها اليوم «الليبرالية الجديدة»، حاولت عكس إنجازات «الصفقة الجديدة» المتعلقة بحماية العمّال المنظّمين ودعم الفقراء. وراحت الحكومات الليبرالية الجديدة في جميع أنحاء العالم تُخصخِص العديد مِن التنظيمات المملوكة للقطاع العام، ووسّعت الإعفاءات الضريبية للأغنياء مع تقديم إعانات للشركات الكبيرة. أدَّت هذه التغيُّرات إلى زيادة اللامساواة في الدخل والثروة في العديد مِن البلدان.
مِن المبكر معرفة العواقب التي ستترتّب على الحركات الطالبية الحالية الداعمة لتحرير فلسطين. أحد الاختلافات هو أنّ غالبية كُلّيات الجامعات دعمت الاحتجاجات الطالبية في الستينيات بقوّة، في حين لاقت موجة الاحتجاجات الأخيرة دعماً ضعيفاً مِن أعضاء هيئة التدريس، وواجهت قمع الإدارات للاعتصامات في معظم المؤسّسات. أعتقد أنّ هذا الاختلاف يتعلّق في المقام الأوّل بنفوذ الصهيونية القويّ داخل الولايات المتحدة. ولكن مع ذلك، نلاحظ تضامناً شعبياً كبيراً مع الاعتصامات، ودعماً متزايداً لحملة سحب الاستثمارات مِن إسرائيل. في الواقع، يشعر معظم الناس في الولايات المتّحدة بالاشمئزاز ممّا يرونه في التقارير الإخبارية عن التدمير والقتل في غزة. ولكن مع ذلك ما زال الصهاينة أقوياء في بلدنا. هذه الحرب العبثيّة والمأساوية تحتاج إلى نهايةٍ تسير في الاتجاه المذكور أعلاه.

مدير معهد «بحوث النظم العالمية» في جامعة كاليفورنيا