كانت السيارة السوداء من طراز «فورد - تي» تتهادى ببطء على المسلك الترابي بين مكة والطائف، في ذلك اليوم القائظ مِن شهر أيار 1930. ووقف حارسان مِن الخوِيا يحملان على ظهريهما بندقيتين، فوق العتبتين الخارجيتين للسيارة يمسكان ببابَيْها، وقد ألهبت الشمس الحارقة جسديهما. وفي داخل تلك العربة، ظلّ الملك ساهِماً مهموماً، وهو في طريق العودة إلى قصره الصيفي، بعد أنْ أنهى مناسك الحج، في ذلك العام. ولمّا طال شرود ابن سعود أحبّ رفيقه جون فيلبي أن يسرّي عنه، فقال له: «يأتي العون من الله، يا طويل العمر». التفت عبد العزيز إلى مستشاره البريطاني الذي كان يُسبِل لحيته ويضع على رأسه غترة وعقالاً، وأجابه: «ونِعم بالله». صمتَ الملك قليلاً، ثم زفَر زفرة ضيق، وقال لفيلبي: «كنت أبي (أريد) أجمع لي شوية فلوس من موسم الحجّ حقّ هالسنة. بَس ترى الحال واقف». سكت ملك نجد والحجاز هنيهةً، وألقى نظرةً عابرة على السائق الهندي صدّيق الجالس بجانبه، ثم على الطريق القاحل أمامه.

لم يحب الملك، على ما يبدو، أنْ يَسمعه خدمه شاكياً. ولكنّ بَرَمَ ابن سعود سرعان ما طفحَ، فغلبَ تجلّده. وانطلقت كلماتٌ مغتاظة مِن حلقه لتبوح بما غصَّ به: «شِ اللي صار في الدنيا يخلّي الحجّاج ما عاد يبون يروحون الحجّ؟!». ابتسم فيلبي ثم أخذ يشرح للملك بعض الأمور، قائلاً: «الدنيا تغيرت بالفعل، يا مولاي. والعالم داخل بأزمة اقتصادية كبيرة. وبأميركا وأوروبا، صارت انهيارات بالبورصة وإفلاس وكساد للتجارة. وهذا انعكس ع الاقتصاد في العالم كله. الركود صاب كل المجالات. ومن بينها الحج». وبدا لفيلبي أنّ ابن سعود لا يعي جيّداً، ولا يأبه لما يقوله له، فأضاف: «أنا فاهم، يا مولاي، شو اللي مزعلك. فلوس الحجّ صارت أقلّ من السنين الماضية».
فكّر فيلبي قليلاً، ثمّ فجأةً ضحك ضحكته الشيطانية، وكأنه تذكّر شيئاً يمْكن به أنْ ينفّس انزعاج ابن سعود وانقباضه. قال فيلبي لمليكه: «يوجد حلٌّ لكلّ شيء، يا مولاي. فيه طريقة تجيب لك المصاري... مصاري حتى أكثر من فلوس الحج». رنّت هذه الكلمات الأخيرة رنيناً خاصاً في أذن ابن سعود فانتبه، وسأل: «شلون، يا عبد الله». واستدار الملك بكل جسمه الضخم إلى مستشاره النبيه الجالس في المقعد الخلفي للسيارة بجانب «المْعاوْني» (كان المعاون الإندونيسي عبد الرحمن شخصاً لا غنى عنه في أسفار ابن سعود البرّية. فهو يملك الخبرة في الميكانيكا وإصلاح الأعطال وكان يلازم السائق صدّيق، ويعاونه على مصاعب الطريق ومُدلهمّات السفر). أجاب المستشار الإنكليزي: «يا مولاي، أنت عامل مثْل الرجّال اللي نايم فوق كنز مدفون، من غير ما يدري». سكت فيلبي ليرى أثر كلماته على الملك. ثمّ أضاف قائلاً بلكنته ذات النكهة الشامية: «تحت الأرض، في الصحراء يوجد بحر مِن النفط يبلش في كركوك وينتهي في جنوب فارس. وأنا ما عندي شكّ أن المناطق الشرقية مِن المملكة هي جزء مِن هذا البحر». أحسّ فيلبي بانتباه ابن سعود، فأكمل: «يا مولاي، لو تعطيني الموافقة. أنا أقدر أجيب لك عروض بملايين الجنيهات مقابل امتياز استخراج البترول والمعادن».
ظهر الاهتمام جليّاً في سحنة ابن سعود، وهو يسمع حديث النقود الرنانة. وسأل فيلبي: «بس، جماعتك، طَلّوا، من سنين، وشافوا وما لقوا شيء. وقالوا إنو ما فيه كاز في الحَسَا والقطيف»، ردّ فيلبي: «اتركك يا طويل العمر من جماعتي. أنا أدرى منك بجماعتي. خليك معي. انت شو بدك... إيش تبغى؟! جنيهات ذهب... فلوس؟ أنا أقول لك ممكن تقبض ملايين مقابل أنك تمضي على ورقة فيها امتياز للتنقيب على النفط»، ابتسم عبد العزيز وقال: «والله زين! ربنا يبيّض وجهك، يا الصاحب. لو تقبّضني الحين مليون بس، مو ملايين. أعطيك كل الامتيازات اللي تبيها وزيادة».

«الصاحب»
كان هاري سانت جون فيلبي - المعروف في التاريخ السعودي باسم «الشيخ عبدالله»، أو «الحاج»، أو «الصاحب» - طرازاً فريداً مِن الرجال. كان فيلبي سياسياً ودبلوماسياً ومفاوضاً وضابطاً وجاسوساً ومؤرّخاً وجغرافيّاً ورحالةً ومغامراً وعالِماً ومستكشِفاً ومستشرقاً ومستعرباً وكاتباً وتاجراً وسمساراً... وتعلّم فيلبي في جامعة كامبريدج اللغات الشرقية والقانون الهندي القديم والتاريخ، ثم أتقن الفرنسية والألمانية والهندية والفارسية والعربية. وبعد أن التحق بالهند، تعلّم اللغات البنجابية والأوردية والبلوشية. وكان في شبابه ميّالاً إلى الأفكار الليبرالية، ثمّ أُغرم بالاشتراكية، ثم لمّا صار كهلاً، استهواه الصعود الصاروخي لهتلر حتّى زعم ذات يوم، في إحدى شطحاته، أنّ«هتلر رجل رَبّاني معجِز، وله صلة ما بالله سريّةٌ وغامضة (mystic)». ولم يكن موضوع الخوارق والعجائب والديانات والنبوءات أمراً جديداً على اهتمامات فيلبي. فلقد عُنِيَ، منذ أن كان في الهند، بالديانات وتاريخها، وبالدين الإسلامي على وجه الخصوص¹. فأخذ يدرس القرآن، ويحفظ بعضَ آياته في كشمير.
وأحبّ فيلبي، في حياته، المغامرات والأسفار والجِمال والقوافل والنجوم والأساطير والنيازك والصحاري وخطوط الطول والعرض. ودوّن في رحلاته أسماء الأمكنة والأودية والجبال والأشجار. وجمع الطيور والنباتات والزواحف والحشرات وعظام الحيوانات. ونسخ النقوش والحروف القديمة، وسجّل كلّ ما سمعه ورآه مِن الناس عن العادات الاجتماعية والأمثال. وواجه الرجل مِن الأخطار والمشاقّ في أثناء مسحه للجزيرة العربية ما يجعل العاقل يُحجم أو يتروّى، لكنّ المتاعب لم تفتّ يوماً مِن عزيمته. ولقد أشرف على الهلاك في رحلته الرائدة إلى الربع الخالي، فلم يثنه ذلك عن مواصلة حياة المغامرة والاستكشاف.
على أنّ أهمّ استكشافٍ قام به جون فيلبي في حياته، هو اكتشافه لصاحبه ابن سعود. وعلى الرغم مِن المجادلات والمناقرات الدائمة بينهما، على امتداد خمسة وثلاثين عاماً، فقد أومض بيْن الرجلين وميضُ إعجابٍ متبادل، منذ لقائهما الأوّل في قصر الديرة بالرياض، في 30 تشرين الثاني/نوفمبر 1917. ثمّ تحوّل الإعجاب، بمرور الأيام، إلى شغفٍ مِن جانب فيلبي، وإلى تعلٍّق مِن جانب ابن سعود. أمّا عبد العزيز فإنه رأى في فيلبي ما افتقده في نفسه مِن معارف بالعالم خارج حدود بيئة الصحراء. ثمّ وجد في صاحبه الناصِحَ والمشير والمرشد والدليل والمدبّر والمعلّم العليم. وأمّا فيلبي، فقد عثر في صورة ابن سعود على شيء كان يبحث طويلاً عنه؛ لقد رأى صورة الرجل في فطرته وبداوته الأولى، بعيداً عن تزاويق الحضارة، وزيف المدنيّة وزورها. ثمّ لمس فيلبي في ابن سعود طينة الملك الشجاع الذي يكافح ليجمع شمل أمّة، ويوحّد قوماً، ويلمّ شعث بلاد. ومع مرور الأيّام، تحوّل عبد العزيز في خيال فيلبي الواسع إلى الرجل الذي لا بأس أنْ يقارَن بقورش الكبير.

«الجاسوس»
سيكون من التبسيط، أن تُختزَل العلاقة المديدة والمعقّدة بيْن الرجلين في موضوع «الجوسسة». نعم، جاء فيلبي، في أوّل أمره، إلى ابن سعود في مهمّة مخابراتية صرفة. وأدَّى الضابط البريطاني دوره المرسوم له في تلك المهمّة على أحسن وجه. وخدم مصالح بلاده في محاربة النفوذ التركي في الجزيرة العربية² وتصفيته. وكانت تلك التصفية إيذاناً بهزيمة العثمانيين في المشرق العربي كلّه، ومقدّمةً للإجهاز التامّ على دولة الخلافة الإسلامية. لكنّ دور فيلبي لم يقف عند ذلك الحدّ. ولو أنه توقّف، لكان الرجل حظي في الغرب بمكانةٍ وشهرة لا تقلّان عمّا ناله لورانس مِن إجلالٍ وتمجيد وحظوة. وأمّا جون فيلبي، فقد انتهى به الحال - مِن وجهة نظر لندن- مارقاً، ومنشقّاً، ومتّهماً بالتمرّد على سياسات بلاده، وبالعمالة تارةً للعرب، وتارةً للأميركيين. ثمّ أضيفت -في ما بعد- لأسباب السخط القديم عليه أسبابٌ أخرى تتعلّق بنجله الأكبر الذي انتهى -هو الآخر- مارقاً ومنشقاً وعميلاً للسوفيات.
حارب فيلبي النفوذ التركي في الجزيرة العربية، إيذاناً بمعركة الإجهاز التامّ على دولة الخلافة الإسلامية


ومِن الغريب أنّ الإمبراطورية التي خدمها فيلبي في شبابه بكل إخلاص، لم تغفر له نشوزَه وجموحه وجنوحه، فهمّشته وتجسّست عليه واعتقلته وأقصته وتناست كلّ الخدمات التي قدّمها في الماضي. وأمّا ممالك العرب التي ساعد فيلبي على صناعتها، فلم تأبه له في أواخر أيّام عمره. وأغاظها منه نقده اللاذع لانحراف ملوك الرمال عن فطرتهم الأولى، ونكوصهم عن سجاياهم وبداوتهم وبساطتهم، وانسحابهم مِن مروءتهم ونخْوَتِهم وحميّتهم، بل وانقلابهم حتّى على رجولتهم. ومِن أجْل ذلك طردوه وأذلّوه واتّهموه بأمورٍ فيها بعض الصدق، وفيها بعض الخطل³. وحينما مات عبدالله فيلبي في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، في اليوم الأخير مِن شهر أيلول 1960، كان عدد الذين حضروا جنازته وصلّوا عليه أقلّ مِن عشرة أنفار. بينهم ولده كيم، وزوجته البلوشية روزي، والحمّالون الذين نقلوا الجثمان إلى مقرّه الأخير في مقبرة الباشورة. ولم يحضر بيْن المشيّعين ممثّلٌ واحد عن سفارات السعودية أو العراق أو الأردن أو المملكة المتّحدة. وكأنّ فيلبي لم يلعب يوماً دوراً في نشوء تلك الدول، أو في خدمتها.

«المشكلجي»
فهم فيلبي العقلية الشرقية والغربية معاً، وعرف ما فيهما مِن صلاحٍ وعيوب واعوجاج، ولكنه لم يَقبَلْ بهما. ولأجل ذلك، ظلّ طوال حياته رجلاً ممزّقاً في ولاءاته وروابطه وانتماءاته. ولقد حاول فيلبي جهدَه أنْ يكون مخلِصاً في عمله مع الذين انتمى إليهم بأصوله، وحتّى مع الذين انتسب إليهم برغباته وأحلامه، ولكنّ ذلك الجهد أعياه، وما أرضى -في النهاية- أحداً. ولربّما أدرك الرجلُ في آخر المطاف (أو لربما منذ بدايته) أنّ عليه أن يُخلص لنفسه هو، قبْل أي شيء آخر غيره، وأنْ ينفع ذاته أوّلاً، قبْل أنْ ينتفع منه سواه. وبسبب ذلك الابتئاس مِن الآخرين، عاش فيلبي عيشةً حادّة، وتطبّع بطبعٍ خشن، وحمَل نفسه على أنْ يرتقي في الحياة مرتقى صعباً. وكان يبحث في التحدّيات عن ذاته، ويفتّش في الفلوات والمفازات والصحاري عن مجده. وإنّ تلك الشدة التي ألزم بها فيلبي نفسه هي التي صنعتْ له سمعتَه القبيحة التي تزعم أنه رجلٌ مغرور، غضوب، لجوج، صعب المراس، سليط اللسان، كثير المشاكسة، غريب الأطوار، لا يعجبه العجب... ولا شك أنّ في الرجل شيئاً من تلك العيوب جميعاً، وعيوباً أخرى أسوأ4. لكنّ فيلبي أيضاً كان امرَأً يمقت الدجل، ويكره النفاق، ولا يعجبه الخداع والمخاتلة. وإنّ ذلك كلّه هو الذي دفعه، منذ أواخر الحرب العالمية الأولى، إلى إشهار اعتراضه على سياسة الاحتيال التي تتبعها حكومته في المشرق العربي.
غيْر أنّ اعتراض فيلبي على سياسات بلاده الذي انتهى به إلى الاستقالة (أو الإقالة على الأصحّ) مِن وظائفه الرسمية، لم يكن يعني بالضرورة الوصول إلى القطيعة الكاملة مع وطنه. بقيت لفيلبي في لندن، بحكم ماضيه العتيق، صلاتٌ ومعارف استخدمها الرجل أحياناً لخدمة مصالحه. وكان مِن بيْن أصحابه أسماء لامعة كالماريشال برنارد مونتغمري (وهو مِن أقاربه)، وصديقه فالنتاين فيفيان نائب رئيس جهاز المخابرات MI6، وصديقه النائب في البرلمان أرنولد ويلسون (الذي كان الحاكم المدني للعراق). كما احتفظ فيلبي لنفسه -على امتداد السنوات الطويلة التي لمع فيها اسمه- بتشكيلةٍ مِن العلاقات، مِن خارج بريطانيا، تشمل رجالاً لا يمكن أنْ يجمع بينهم جامع، على غرار: آلان دالاس، وديفيد بن غوريون5، وجواهر لال نهرو، وأدولف إيخمان وآخرين...
لقد أدرك فيلبي بذكائه، كضابط مخابراتٍ قديم، أهمّية أنْ ينسج المرء لنفسه شبكة علاقاتٍ واسعة. وعرف مبكراً قيمة أنْ يكون مَن حوله، وبالقرب منه رجالٌ مهمّون. وانتبه فيلبي - قبْل كثيرين- لبريق نجمٍ جديد صاعد، هو ابن سعود. ورَجَمَ بأنّ هذا النجم البازغ هو مَن سيظهر على غيْره في صراعات الجزيرة العربية، وراهن بكل أرصدته على ذلك.

«المتمرّد»
لعلّ مشاكل فيلبي مع رؤسائه تعاظمت بسبب إلحاحه على وجوب التعويل على ابن سعود ومساندته، لأنه «الحصان الرابح». ولم يَلْقَ إلحاح فيلبي آذاناً صاغية، فتقوية الوهابيين المتزمّتين لمْ تكن هدفاً في سياسة بريطانيا، بل هي كانت تكتيكاً اضطرت إليه في خضمّ الحرب على الأتراك. وعندما انتهت الحرب العالمية الأولى تغيّرت كثير مِن الظروف والأهداف. وعلى سبيل المثال، لمْ يعُدْ مِن المحبّذ، في حسابات اللورد كورزون (وزير الشؤون الخارجية) القضاء المبرم على ابن رشيد، فهو يمكِن أنْ يمثّل حجر إعاقة ضدّ غزوات الوهابيين لجنوب العراق، وإمارة شرق الأردن. بيْد أنّ فيلبي لم يَرَ في تلك الحسابات الملتوية فائدةً، وشَطَّ في عناده شَطَطاً بعيداً. وادّعى أنّ ابن سعود أجدر وأقدر على حماية مصالح بريطانيا في المنطقة مِن غيره. وأنّه لو توحّدت الجزيرة العربية تحت رايته، فإنّ ذلك سيُكسب لندن حليفاً قوياً ثابتاً، وهذا خيرٌ لها مِن حلفاء ضعاف عاجزين. ووصل الأمر بفيلبي حدّ التجرؤ على مراسلة ابن سعود سرّاً لحثّه على الاستيلاء على حائل، ثمّ التقدّم نحو الحجاز لاحقاً. ولمّا انكشفت تلك المراسلات السرّية، في سنة 1924، لمْ يكن لفيلبي خيارٌ سوى أنْ يقدّم استقالته فوراً مِن منصبه كمديرٍ للمخابرات الحربية البريطانية في فلسطين.
عندئذ قرّر فيلبي أنْ يغيّر في أولوياته وولاءاته. وأنْ ينتقل تماماً إلى صفّ ابن سعود حتّى لو أدّى ذلك إلى وصفه بالمتمرّد. ولمْ تمضِ شهورٌ حتّى تبيّن للجميع أنّ فيلبي كان على حقّ، وأنه كان أبعدَ نظراً مِن غيره. فلقد سقطت حائل في يدي ابن سعود. ثم تساقطت مدن الحجاز واحدةً تلو أخرى، كأنها أحجارٌ في جدارٍ يتداعى. وجاء فيلبي إلى جدّة، ليؤسّس هناك شركة تجارية تورّد السيارات، والجرّارات، وأجهزة الراديو، وأجهزة الهاتف، وحتّى لعب الأطفال... ولمْ تكن الأعمال التجارية إلّا غطاء لنشاطات الرجل العلنية والخفية. فهو صار -بصفة غير رسمية، ولكنها فعلية- مستشار الملك في السياسات الخارجية، ومساعده في تدقيق الحسابات المالية، ومبعوثه في المهمّات السرّية. لقد أصبحت مهمّة فيلبي الجديدة هي اصطناعُ أساسٍ مكين لعرْشٍ سعودي، بعد أنْ ساهم في الماضي في اصطناع أسسٍ لعَرشٍ في العراق، وآخر في الأردن.

«الوكيل»
إنّ أهمّ مساهمةٍ لعبها جون فيلبي لإسناد مُلك ابن سعود، هي دوره في قصة اكتشاف النفط، في الدمام، في ثلاثينيات القرن الماضي. وكان فيلبي قد تلقّى، في 11 تموز 1932 دعوةً للغداء في مطعم «سيمبْسونز» في لندن، مِن فرانسيس لوميس نائب وزير الخارجية الأميركي سابقاً، والذي أصبح يشغل منصب المدير التنفيذي لشركة «ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا» (سوكال). وكان عرض لوميس على المستشار السعودي فيلبي مغرياً: 50 ألف جنيه ذهبي شهرياً مقابل الحقوق الحصرية للتنقيب عن النفط السعودي. هذا بالإضافة إلى عمولةٍ مجزية لفيلبي، وراتب قارّ له مِن شركة النفط الأميركية. وكانت تلك فرصة جاءت إلى الإنكليزي على طبق.
لقد أتى هذا الفرج، في ظرفٍ كانت مملكة ابن سعود تعاني فيه أزمةً مالية خانقة. فقد تهاوت موارد الحجّ إلى أقل من نصف ما كانت عليه، وتقلّصت الأرباح السنوية إلى أقلّ مِن مليوني جنيه استرليني. وانتشر الخوف بيْن التجار، وأخذوا يشترون الذهب ويخبّئونه مخافة انهيارٍ وشيك لقيمة عملة ابن سعود الجديدة. كان يوم وصول الوفد الأميركي إلى جدّة عيداً للسعوديين. ورحّب الملك عبد العزيز بضيوفه الجدد بحفاوةٍ بالغة، إلى حدّ جعله يرقص هو وأولاده رقصة العَرضة أمامهم.
وحينما تبيّن أنّ المملكة السعودية تحتوي على أكبر مخزونٍ للبترول في العالم، تغيّر وجه كل شيء في تلك البلاد: شكلها، وروحها، وقيَمها، وقوتها، ومكانتها، ومصالحها... لقد ماتت مملكة نجد القديمة، وقامت على أنقاضها مملكةٌ جديدة متوحّشة.

* كاتب عربي من تونس


هوامش
1- أعلن فيلبي اعتناقه الإسلام، وحجّ إلى مكة، في موسم 1930. وأطلق على نفسه اسمه الجديد (عبد الله). ولكنّ تجّار جدّة لم يصدّقوا يوماً إسلام فيلبي. كان بعضهم يسخر قائلاً: «إنّه كان عليه أن يسمي نفسه (عبد القِرش)، وليس (عبد الله)». وذلك بسبب جشعه وحبّه الشديد للمال. ولم يتخلَّ فيلبي، بعد إسلامه، عن معاقرة الخمر. وكان يشرب زجاجة بورغوندي كلّ يوم. وعلى الأرجح أنّ الرجل كان ملحداً، وأنّ أسباب اعتناقه الإسلام مصلحيّةٌ وليست روحيّة. ففيلبي فهِمَ أنه لن يصير جزءاً متأصّلاً مِن الحياة الاجتماعية في بلاط ابن سعود، ما دام غير معتنقٍ للإسلام.
2- كتب فيلبي رسالةً بعثها إلى رئيسه السير بيرسي كوكس، في يوم الثاني من حزيران 1918، مِن مقرّ معسكر ابن سعود في وادي الدواسر. وتُبيّن تلك الرسالة فهمَ فيلبي لدوره الذي ابتُعث للقيام به. يقول في خطابه: «إنّ ابن سعود رجلٌ يحتاج إلى صداقة بريطانيا وتأييدها حتّى يستطيع أنْ يساعد أهدافها ومطالبها. وأوّل ما يحتاج إليه ابن سعود هو السلاح والمال. وللمال عند الرجل اعتبارٌ كبير لإيمانه أنّ الحصول عليه، وعطاياه منه لأنصاره، هو المبرّر الوحيد أمام أولئك الأنصار لاتّباع سياسته التي تؤازر الإنكليز ضدّ دولة الخلافة». ويضيف فيلبي: «إنّ زعيم الوهابيين ابن سعود (لكي يُخرج نفسه من مأزق موالاة «الكفار» على «المسلمين») يقوم بتأويل القرآن الذي يتسامح مع النصارى مِن أهل الكتاب، ويتشدّد في وجوب القضاء على المرتدّين عن الإسلام. وهم -في نظر ابن سعود- كل المحمّديين فيما عدا الوهابيين». ويُكمِل فيلبي قائلاً: «ليس مِن شأننا تصحيح الخطأ في هذا الموضوع، بل على العكس علينا العمل على تعميق كراهية ابن سعود لكلّ المسلمين مِن غير الوهابيين. فكلّما زادت هذه الكراهية للجميع، كان ذلك متوافقاً مع مصالحنا».
3- لعلّ مِن أصدق ما قاله فيلبي ساخراً، يوم شتَمه الملك سعود، وطردَه مِن المملكة، واتّهمه بأنه جاسوسٌ إنكليري؛ هذه الكلمات: «الحقّ، يا سيّدي، أنّ الإنكليز ليسوا في حاجةٍ إلى بثّ جواسيس مِن أبناء جلدتهم في بلادك، أو في البلاد التي يستعمرونها، أو التي تمتدّ إليها مطامعهم، لأنهم يجدون دائماً مِن أبناء هذه البلاد وتلك مَن يتطوّع للقيام لهم بأداء هذه المهمّة خير قيام».
4- مِن سقطات فيلبي الأخلاقية أنه قبِل جاريةً أهداها له ابن سعود سنة 1931، واتّخذها أداةً لإشباع رغباته الجنسية. وكان مِن عادة ملك السعودية أنْ يهب لِمَن يشاء عبيداً وجواريَ. وفي مذكّراته، يروي السفير جيه ريفز تشايلدز (المفوّض الأميركي لدى المملكة في الفترة بيْن 1946و1950) قصّةً طريفة عن هذه الهدايا البشريّة. فقد أشفق العاهل السعودي عليه حيْن فطن إلى أنّ زوجته لمْ تأت معه إلى المملكة، فعرض عليه جاريةً تبعث البهجة في لياليه. وقصّ تشايلدز هذه الحادثة على زملائه الدبلوماسيين في جدّة متندّراً. وقال إنه رفض العرض الملكي بالطبع.
5- كتب ديفيد بن غوريون، في مذكّراته، أنه التقى بفيلبي في 18 أيار/مايو 1937 في نادي أثينيوم، بلندن. وحاول بن غوريون استخدام فيلبي كوسيطٍ في اتّفاق بيْن الحركة الصهيونية وابن سعود. وبعد أيّامٍ قليلة مِن لقائهما، أرسل فيلبي إلى بن غوريون مسوّدة مقترحات كان مِن بينها أنْ يتخلى اليهود عن مطلب إقامة دولةٍ لهم بناءً على ما جاء في وعد بلفور، مقابل الترحيب بهم مهاجرين في فلسطين، ومواطنين ضِمْن كونفدرالية اتّحادٍ عربي برئاسة ابن سعود. ولم تكن هذه المقترحات لترضي بن غوريون بالطبع. فأرسل إلى فيلبي اقتراحاً مضادّاً يعرض فيه على ابن سعود، مبلغ 20 مليون دولار، بضمانةٍ مِن الرئيس روزفلت بنفسه، في مقابل إعادة توطين عرب فلسطين في أرجاء المملكة السعودية الواسعة. ولم يحصل اتّفاق، لأنّ عبد العزيز اعتبرَ أنّ هذا العرض رشوةٌ مهينة.