خلافاً للنسخة المنقوصة والمتداولة من كتاب «حوادث دمشق اليومية» بتوقيع شهاب الدين بن أحمد بن بدير الحلّاق (1701- 1762)، أواخر القرن الثامن عشر، النسخة التي عبث بها محمد سعيد القاسمي حذفاً وإضافة، يميط فارس أحمد العلاوي اللثام عن النسخة الأصلية من المخطوطة (مكتبة شتربيتي - إيرلندا) بتحقيق شامل يعيد الحق لصاحبه، لجهة اللغة التي تتأرجح بين العامية والفصحى، واسترجاع الفصول المحذوفة منها، وخصوصاً تلك التي ينتقد فيها الحلّاق عهد والي دمشق أسعد باشا العظم وجوره على الأهالي «ما أبقى للفقراء قمصان، وهذا الغلاء ما سمعنا بمثله أبداً، وقد طال المطال، والناس منتظرة للفرج من الملك المتعال».
خلدون شيشكلي ـ «جمال سوق الحميدية في الماضي» (ألوان مائية ــ 2003)

أوغل القاسمي في تشويه لغة هذا المؤرخ الشعبي وأفكاره، تحت بند التنقيح والتهذيب، إذ أطاح الأشعار المرفقة، والانتقادات اللاذعة لرجالات الدولة والأعيان، والأمثال الشعبية الواردة في النص، كأن يتحوّل المثل الشعبي الدمشقي «كلام الليل ملطوخ بزبدة، فإذا طلع عليه النهار ذاب» إلى «كلام الليل يمحوه النهار»، وهو ما اتبعه أحمد عزت عبد الكريم الذي حقّق نسخة القاسمي في ستينيات القرن المنصرم، وهي النسخة المعتمدة إلى اليوم.
في النسخة الجديدة من الكتاب الذي سيصدر عن «دار نينوى» قريباً، يعمل المحقّق السوري على تحليل محتويات الكتاب، وسيرة المؤلف، والمصادر التي اعتمدها في كتابة يومياته، كاشفاً عن أبرز الظواهر التي رصدها هذا الحلّاق النبيه طوال 23 عاماً (1741 - 1762) من موقع المراقب لأحوال المدينة عن كثب، وخصوصاً في ما يتعلّق بالغلاء، وزيادة نسبة الفساد الأخلاقي، وارتفاع الضرائب. ففي القوائم المرفقة بأسعار البضائع والمواد الغذائية، إشارة إلى تدهور أحوال الناس المعيشية «ما جعل الخلق تستغيث وتستجير»، و«وزير الشام مشغول في عمارة داره، ولم يلتفت إلى رعاياه وأنصاره».
لا تكمن أهمية هذه المخطوطة في نبرة الاحتجاج والسخط والإحساس بالهوان حيال ما أصاب دمشق في ظل الحكم العثماني فقط، وإنما في تقنياتها السردية التي تنطوي على شغف في تدوين تاريخ العوام، من وجهة نظر شاهد العيان الذي كان يراقب من دكانه تدهور الأوضاع، وانحطاط القيم، وعدم الاكتراث بأحوال الشارع. على المقلب الآخر، تلفت دانة السجدي في كتابها «حلّاق دمشق: محدثو الكتابة في بلاد الشام« المكتوب بالإنكليزية، إلى الاستراتيجيات الاجتماعية التي سخّرها الحلّاق، والممارسات الخطابية التي قوّضها حين وطأ وتدبّر واستفاد من مكانته الجديدة بين النخبة المتعلّمة، منخرطاً في تدبير حيل تعكس حداثة مكتسباته الثقافية كمتصوّف يتطلّع إلى مكانة علمية أعلى، ومنزلة اجتماعية رفيعة، وتالياً «الانتقال من الفضاء النصّي إلى الفضاء العام»، بذكر أسماء العلماء الذين كانوا يترددون إلى دكانه كزبائن، ما جعله يتمكّن من «اقتحام السلسلة الأفقية التي تجمع بين العلماء في زمنه»، فكان «يقصّ شعر النخبة، وفي الوقت ذاته يقصّ قصته معهم». تختزل دانة السجدي سيرة هذا الحلّاق بقولها «جرأة ابن بدير الحقيقيّة تكمن في فعله البسيط والمذهل في آن، أنّه كتب كتاباً». ما أحوجنا إذاً، إلى حلّاق آخر، يدوّن يومياته في دمشق اليوم بالجرعة نفسها.