ما إن قُرعت طبول «طوفان الأقصى» حتّى انكبّ عدد من متلبّسي السياسة والإعلام و«النشاط» والدين، من حلفاء الولايات المتّحدة (اقرأ: أدوات ومغفّلين مفيدين) على التهويل واتّهام المقاومة بجرّ لبنان إلى الحرب، والتكلّم بلسان الجنوبيّين. ووصل بهم الغباء إلى حدّ إقامة حملات ووثائقيّات ترويجاً لسخافاتهم، لم تؤتِ أكُلَها، بل أظهرت حقيقتهم وخسّرتهم شعبيّةً حتّى بين مؤيّديهم. ولم تنفع ادّعاءات تأييدهم للفلسطينيّين، فهم يستخدمونها كحبّة ملبّس لتمرير أفكارهم المسمومة.فغير اتّهامهم حركة مقاومة بأنّها تتسبّب بحربٍ مع كيان احتلاليّ أعلن بمجرّد وجوده الحرب على بلدان المنطقة بما فيها لبنان، وغير الامتناع عن ذكره إلّا في ختام بياناتهم «رفعاً للعتب»، يظهر نفاقهم عندما كانوا، إبّان حادثة الكحّالة قبل أشهر، يحرّضون على اقتتالٍ داخليّ مع ابن جلدتهم، لا لشيء سوى لأنّه يريد الدفاع عن بلده وبلدهم بوجه مشروع استعماريّ استيطانيّ يقوم على تفوّق العرق الأبيض غير المتحدّر من المنطقة. هذا السبب الوحيد، وكلّ ما يُقال عن «خلافات إيديولوجيّة» ليس سوى ثوب يرتدونه تبريراً لوقوفهم مع احتلال غريب ضدّ تصدّي شعبهم له. فلو كانت أسبابهم إيديولوجيّة نابعة من رفضهم «التطرّف الدينيّ»، لما كان بعضهم متطرّفاً، ولما كانوا سابقاً ضدّ حركات المقاومة الوطنيّة واليساريّة (ويستغلّونها اليوم، كونها غير موجودة، للهجوم على المقاومة الحاليّة)، ولما أرادوا الجيش اللبنانيّ منكفئاً متفرّجاً طوال العقود الماضية، ولما تحالفوا مع متطرّفين أسهموا في بثّ الإرهاب «الداعشيّ» الذي جزّر بأبناء المنطقة بأطيافهم، والأهمّ، لما أيّدوا إسرائيل أو على الأقلّ لما دعوا إلى «السلام» (التطبيع الخيانة) معها.
هكذا مثلاً، يطلّ رئيس حزب «الكتائب» إلى جانب إسرائيليّين لتحميل المقاومة مسؤوليّة الاعتداءات في الجنوب، ويزعم بجهل عدم اعتداء إسرائيل على لبنان قبل الثمانينيّات. يعتبر مع زملائه في «الكتائب» و«القوّات» وميشال معوّض وأشرف ريفي ورأس البطريركيّة المارونيّة ومارك ضوّ ووضّاح الصادق أنّها «حرب الآخرين على أرضنا» ويعيدون تدوير السرديّة الصهيونيّة بنكهة «لبنانيّة»... ثمّ يتذمّرون من «التخوين»! لكنّ الهدف من التسمية ليس «التخوين»، بل التوجّه إلى المذكورين بما يعرفونه أو لا يعرفونه، وما لا يريدون سماعه، أو لا يريدون لجمهورهم سماعه: الحرب حربنا قبل أيّ أحد آخر، لم تفرضها المقاومة، و«القضيّة اللبنانيّة» التي يتحفوننا بها هي نفسها القضيّة الفلسطينيّة.
عليهم أن ينظروا حولهم ويكفّوا عن الترويج لخرافة أنّ لبنان جزيرة معزولة لا أحد يقترب منه إن لم يذهب صوب أحد. مجرّد وجود الكيان خطر على المنطقة برمّتها. مشروع «إسرائيل الكبرى» لم يمت يوماً، وما على المشكّك سوى الاستماع إلى تصريحات مسؤولي العدوّ حول احتلال لبنان، أو إلقاء نظرة على واقع الدول المجاورة المطبّعة وغير المطبّعة ووضع جيوشها. فغير منع فلسطين من تشكيل جيشها، حُيّدت مصر والأردن وأخضِعا للأصيل الأميركيّ، وخُنق الجيش اللبنانيّ، ودُمّر الجيش العراقيّ، وجرت محاولة تدمير الجيشَين السوريّ واليمنيّ، وحُيّدت دول الخليج والسودان، ودُمّرت ليبيا والصومال... هل فكّر جماعة «لا نريد الحرب» لماذا هذه الحال؟ ألا يعرفون أنّ المصالح الاستعماريّة لم تختفِ يوماً، وأنّ الاحتلال زُرع في منطقتنا لخدمتها؟ هو فيلم «فرّق تسد» الأميركيّ الطويل نفسه الذي ارتضى هؤلاء التمثيل فيه ولو «كومبارس». ‏طالما إسرائيل موجودة لن تنعم أيّ دولة في غرب آسيا بالحرّية ولا بالسيادة ولا بالاستقلال، فما بالك ببلد بحجم لبنان.
إذا كان «لبنان قضيّتهم» حقّاً، فهذا يجعل فلسطين قضيّتهم تلقائياً، إذ إنّ إسرائيل اعتدت على لبنان منذ 1948 بدءاً بمجزرتَي صلحا وحولا ومهاجمة طائرة مدنيّة، مروراً بالاجتياحات المتكرّرة (قبل ظهور أيّ حركة مقاومة)، وصولاً إلى احتلال الجنوب ومعتقلات التعذيب والعدوان المتمادي. هي هجّرت الفلسطينيّين إلى أراضيه وحتّمت إقامة المخيّمات وحركات مسلّحة بعضها ارتكب الأخطاء والخطايا، مقابل تسليحها ميليشيات فاشيّة ارتكبت المجازر أيضاً بحجّة محاربة الحركات الفلسطينيّة. هي أوقفت البرنامج الفضائيّ اللبنانيّ، ودعمت مع الإمبراطوريّة إرهاباً اعتدى على لبنان بمدنيّيه وجيشه. هي تتسلّح بحذاء «العمّ سام» لمنع الجيش من التسلّح إلّا بما يكفي لاقتتال داخليّ. هي لا تزال تحتلّ جزءاً من لبنان وتخرق أجواءه وتعتدي على موارده وعينها على غازه، وتقيم شبكات تجسّس مسّت الكازينو، وكلّ ذلك قبل «طوفان الأقصى» بكثير! ولم نتكلّم بعد عن نفوذ إسرائيل ولوبياتها في العالم، ما ينعكس بتأثيره على لبنان. إن لم يكن كلّ ذلك إعلان حرب على لبنان، فماذا يكون؟
هنا، يمكن الاستنتاج أنّ المقاومة تدرك ماذا تفعل. كيف لا وهي أجبرت العدوّ على الانسحاب بالقوّة، ومنعته من الغزو مجدّداً في عام 2006 ثمّ بعدها، وردعته ولا تزال عن القيام بمجازر كالتي كان يرتكبها؟ كيف لا وهو يعترف بعجزه عن التصعيد؟ فالمقاومة موجودة لـ«تقاوم»، وتمنع بوجودها حرب إبادة بحقّ لبنان. هي أثبتت أيضاً أنّها تمنع الحرب الأهليّة التي يريدها بعض أدوات الإمبراطوريّة خدمةً للعدوّ. وإلّا ما الذي يفسّر استعداد بعض «جماعة لا نريد الحرب» لقتال ابن بلده وترك العدوّ يعيد احتلاله؟ قد يستخدم هذا البعض حجّة «الارتهان لإيران»، لكنّها ساقطة مع الأخذ في الاعتبار:
أوّلاً، يرى هؤلاء العلاقة بين إيران وحزب الله من منظور علاقتهم مع رعاتهم كتابع ومتبوع، فيتغافلون عن حقيقة أنّ المقاومة في لبنان تعمل وفق ما تراه مناسباً، وغالباً ما تأخذ إيران برأيها.
ثانياً: يتغاضون عن أنّ لكلّ الدول الكبرى مصالح تلو مصالح، وإذا كان هذا موضع اعتراضهم، وجب أن تكون الإمبراطوريّة على رأس اللائحة، وهي ليست الحال فعليّاً.
ثالثًا: ما هي مصالح إيران الحاليّة؟ لنأخذ بأنّها تريد محاربة إسرائيل لكن عبر وكلاء. حسناً، بعد كلّ ما تفعل بنا إسرائيل، هناك مَن يدعمنا لمقاومتها، فما المشكلة؟ أيّ دولة سجّلها ناصع بما يكفيكم لدعم لبنان بوجه العدوّ؟ الولايات المتّحدة؟
هي ليست حروب الآخرين على أرضنا. هذه حربنا، وبلدنا، وشعبنا. العدوّ يعتدي على فلسطين ولبنان وسوريا واليمن والعراق ومصر والأردن... واستدعى رعاته الغربيّين لمساعدته. مَن أخبركم أنّ شعوب هذه الدول تريد الحرب؟ ومن قال إنّ الحرب ليست حرب اللبنانيّين؟ هي حرب الإنسانيّة جمعاء.

* صحافي