يتركّز الحديثُ هذه الأيام، في الشرق والغرب، على احتمالات الحرب في لبنان. إنّ طول الحديث عن احتمالات الحرب يضعِف من إمكانية حدوثها لأن العدوّ تمرّسَ في أخذِ أعدائه على حين غرّة. الاستباق والمبادرة من صلب العقيدة العسكرية الاستراتيجية لإسرائيل. كان يمكن لإسرائيل لو شاءت أن تدخل الحرب مع لبنان في 8 أكتوبر، لأن الحزب (كما هو أكيد من أسابيع الحرب الأولى) لم يكن متحضّراً للحرب بالرغم من إصراره على المساندة. هو فوجئ كما فوجئ عدوُّه بـ«الطوفان». كان يمكن التناقش في ما إذا كان مفيداً لو أن قيادة «حماس» أبلغت الحزب مسبقاً بالخطوط العريضة للعمليّة. لكنّ السنوار حريص، وبنجاح هائل، على أمن العمليّات وعلى الحفاظ على سلامة مقاتليه. الذي درس العدوّ في سنوات السجن الطويلة تعلّمَ منه فن الاستباق والمباغتة، وهذا لم يكن العرب متمرّسين فيه باستثناء حرب أكتوبر، والتي حوّل أنور السادات مسارَها من نصر أوّلي إلى هزيمة في جبهتيْن.
(هيثم الموسوي)

احتمالات ترجيح الحرب:
إ1) إن إسرائيل تحتاج إلى تحقيق نصر بعد أن فاتها النصر في غزة، وإن هيبة إسرائيل العسكرية أمام العرب تحتاج إلى إنقاذ سريع.
2) إن حزب الله بدأ الحرب ولم يتوقّف بالرغم من حجم الضغوطات وتصاعد العدوان الإسرائيلي، وإن الطريقة الوحيدة هي في ردع الحزب.
3) إن هناك فريقاً لبنانياً عريضاً مستعداً لمناصرة إسرائيل وهو يساهم يوميّاً في مجهودها الحربي، تماماً كما كان هناك، في صيف 1982، فريق لبناني كبير (شيعي ومسيحي بأكثره) في صف إسرائيل خلال الاجتياح.
4) إن إدارة بايدن مطلقة في دعمها الكامل والشامل لإسرائيل في عدوانها وهي لم تحترم أي خطوط حمر كان بايدن وضعها أمام نتنياهو. يستطيع نتنياهو أن يستغل سنة الانتخابات من أجل تحقيق نصر لم تستطع إسرائيل تحقيقه في عام 2006. المنافسة بين بايدن وترامب ستمنع بايدن من وضع كوابح أو ضوابط أمام عدوان إسرائيل، هذا لو أراد، وهو الذي كان أوّل رئيس أميركي يُعرّف نفسه على أنه صهيوني.
5) هناك صراعات في إسرائيل وهي قد تؤدّي إلى وضع حسابات الربح والخسارة جانباً والنزوع نحو خيار لا عقلاني.
6) إن وضع نتنياهو (سياسيّاً وقضائيّاً) محرج للغاية وهو سيواجه أزمة كبرى حالما تنتهي الحرب خصوصاً بالنسبة إلى مسؤوليّته عن حدوث «طوفان الأقصى». وتنتظره أيضاً تحقيقات الفساد الجنائية.
7) إن إسرائيل لا تعرف طريقةً لإنهاء الحرب في غزة وتأمل أن تكون الحرب في لبنان مساعِدة لها.
احتمالات ترجيح انعدام الحرب:
1) لم يكن أداء إسرائيل في حرب غزة مُبهراً أبداً. مجازر وجرائم إبادة لكن ليس من انتصارات عسكريّة أو تفكيك لبنية «حماس». نذكر أن إسرائيل كانت تَعد في حرب تمّوز بالقضاء على حزب الله وعلى ترسانته الصاروخيّة بالكامل. وكلّما كانت تعلن الانتهاء من مهمتها، كان الحزب يفاجئها بالمزيد من الصليات الصاروخيّة المُبهِرة. فإن كان أداء إسرائيل في غزة مقصّراً، فمن غير المعقول أن يكون أداؤها في لبنان أفضل - ضد أقوى عنصر في محور المقاومة. هذا العنصر بات أقوى من معظم الجيوش العربيّة وكسب خبرة قتاليّة متراكمة في سوريا، فيما لم يخض جيش العدوّ مواجهة ميدانيّة عسكريّة منذ سنوات. حاول العدوّ أن يتقدّم في الجنوب في حرب تمّوز ومنعته المقاومة من تحقيق مهمته. العدوّ يدخل في حرب عندما يضمن الفوز الساحق فيها. لا يقبل بأقل من ذلك. هو دخل في حرب تمّوز ظناً منه أنه أمام تجربة لا تختلف عن اجتياح 1982، عندما استغل محاولة قتل سفيره في لندن للقضاء على منظمة التحرير. وبالفعل، في غضون أيام انتصر على منظمة التحرير والحركة الوطنيّة وأنهى منذ ذلك تجربة مقاومة منظمة التحرير الفلسطينيّة. في حرب تمّوز، فوجئ العدوّ بقوّة لم يألفها من قبل. هؤلاء (في غزة ولبنان) من طينة مختلفة. إسرائيل استمرّت في الحرب على مدى ثلاثة وثلاثين يوماً، وبعدها ضاق بوش ذرعاً بها وقال: منحتكم من الوقت ما تحتاجون إليه، وفشلتم. لا أستطيع أن أفعل أكثر من ذلك.
إنّ الحرب، لو وقعت، ستكون من أكبر الحروب في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي وهي ستكون بالضرورة حرباً إقليمية. وهذا ما تشير إليه باستمرار الإدارة الأميركية في محاولة لتذكير إسرائيل بمخاطر إشعال حرب


2) بعد ليلة القصف الإيراني، ظهر ضعف إسرائيل. ليلة واحدة وفشلت إسرائيل في الدفاع عن نفسها بنفسها. احتاجت إلى مساعدة أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا ومصر والأردن والإمارات. كان عنوان قدرات الدفاع الإسرائيليّة أنها تستطيع من دون مساعدة غربيّة، لكن بتسليح وتمويل غربييْن، أن تدافع عن نفسها وأن تنتصر على أعدائها. هذا لم يعد متاحاً.
3) بسبب أداء إسرائيل في هذه الحرب، لم تعد أميركا تثق بقدرات إسرائيل خصوصاً أمام بأس حزب الله. نائب مجلس الأمن القومي الإسرائيلي توقّع أن ينتصر الحزب على إسرائيل في 24 ساعة. هذه من عجائب تغيّرات موازين القوى بيننا وبين إسرائيل. وليس الحماس والتأجيج ضد الحزب في الإعلام السعودي-الإماراتي (واللبناني التابع) إلا بسبب عجز إسرائيل أمام الحزب.
4) إنّ اعتماد التهويل والتخويف المستمر (عبر وسائل إعلام عربيّة خاصةً) ليس إلا دليل عجز وانسداد أفق. لا يمكن أن تكون إسرائيل تعتمد التهويل إيذاناً بالحرب. هذه دولة كانت تنقضّ بلا إنذار وكانت تصوّر العدوّ بأنه المعتدي ولو كان متمنّعاً، كما كانت الجيوش: المصري والسوري والأردني في عام 1967. إن الإفراط في التهويل والتخويف له نتيجة تنسجم مع قانون العائدات المتناقص. هذا التهويل (من صحف وشاشات الصهيونيّة في لبنان) يجري بصورة يوميّة وبتناغم بروباغاندا العدوّ. يريد هؤلاء تشكيل لوبي إسرائيلي يردع الحزب كأن الحزب يلعب وفقاً لحسابات أعوان إسرائيل بيننا.
5) سيتشكّل لجم مؤسّساتي عسكري-أمني من داخل الحكومة ضد توجّهات الجموح من نتنياهو. إسرائيل ليست دولة ديموقراطيّة في أيام السلم، وهي أكثر تسلّطاً عسكرتارياً في أيام الحرب. يستطيع قادة الجيش و«الموساد» ضبط نتنياهو لو هو أراد الخوض في مغامرة لصالح مستقبله السياسي. الجنون في إسرائيل يكون مخطّطاً له والتهويل يعتمد على سيناريو أن نتنياهو ضاق ذرعاً وأنه لم يعد بمستطاعه أن يستمر في ضبط النفس. هذا جزء من الحرب النفسية التي تخوضها إسرائيل، ويخوضها معها فريق كبير من ساسة وإعلام لبنان والخليج.
6) أداء الحزب في هذه الحرب الطويلة فاق التوقّعات من عدة نواحٍ. هو أولاً أظهر قدرة ديناميكيّة هائلة على التكيّف مع مجريات المعركة. تكفي مقارنة عدد ضحايا الحزب في أول الحرب بالأسابيع الماضية. أدرك الحزب أن هناك ثغرات أمنيّة وحدّد بالضبط قدرات التجسّس الإكتروني الإسرائيلي. هو طوّر في طريقة انتشاره وتعامله مع نيران العدو. والحزب اتّبعَ طريقة التدرّج في الردّ على إسرائيل وفاجأ الخصم أكثر من مرّة. قد يكون من جوانب التطوّر في أداء الحزب هو القدرة على التركيز على الأهداف العسكريّة. هذا دليل قوة وليس دليل ضعف: لم تكن مقاومة منظمة التحرير تستهدف بالضرورة المدنيّين الإسرائيليّين لكنها كانت تعجز في الوصول إلى الأهداف العسكريّة، وهذا يحتاج إلى عملٍ دؤوب واستخبارات قويّة. والعدوّ يعلم أنّ لدى الحزب أسلحة سرّية لا يعلم بها.
7) إنّ ضلوع الحزب في الحرب النفسيّة له أثر على المزاج الشعبي الهام وهو سيلعب دور المروِّض لجموح القادة الذين ينادون أو يهدّدون بالحرب. لكن هذا العامل قد يكون له أثر معاكس: أي أن يخاف الإسرائيليّون من الحزب إلى درجة أنهم يؤجّجون لحسم الحرب معه (واستطلاعات الرأي تظهر ذلك). لكنّ القادة يعلمون أنه لا يمكن حسم الحرب مع الحزب بهذه السهولة. حتى مع «حماس» يقف جيش العدو عاجزاً. أظهر الحزب براعة ما بعدها براعة في إدارة دفة الإعلام الحربي. إنّ شرائط الفيديو التي بثّها الحزب على وسائل التواصل لا بدّ أنها ألحقت الرعب في نفوس الصهاينة. إنّ شريط الهدهد كان رادعاً تماماً كما أن شريط المنصّات البحريّة كان مؤثّراً (لصالح لبنان) على مسار المفاوضات بين لبنان والعدو.
8) إنّ الحرب، لو وقعت، ستكون من أكبر الحروب في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي وهي ستكون بالضرورة حرباً إقليمية. وهذا ما تشير إليه باستمرار الإدارة الأميركية في محاولة لتذكير إسرائيل بمخاطر إشعال حرب. وقد أبلغت أميركا إسرائيل رسمياً هذا الأسبوع أنّ التقدير الأميركي يشير إلى أن إيران ستكون بالضرورة طرفاً في هذه الحرب، ما يعني أنّ حسابات الربح والخسارة هي ليست في صالح إسرائيل مقارنةً بحسابات الأعوام والعقود الماضية. إنّ حجم الحرب المدمّرة (والعقيدة التي تحملها حركات المقاومة اليوم) يحتّم إلحاق الضرر الأكبر بالكيان منذ عام 1948. لمْ يسبق أن ضُربت أهداف في داخل فلسطين المحتلة بهذه الطريقة مِن قَبْل، ولا حتى في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.
لا يمكن الجزم بطريقة أو بأخرى حول مسار الأيام والأسابيع المقبلة، خصوصاً أنّ أميركا تدخل مباشرةً وبقوّة في مسار مفاوضات التهدئة على الحدود بيْن لبنان وفلسطين. وخلافاً لمشاعر اللبنانيين الذين يعتقدون -سذاجةً أو خبثاً- أنّ أميركا لا يحيد قلبها عن لبنان وأنّ مصالح اللبنانيين لا تقلّ أهميّة عن مصالح الإسرائيليين، فإنّ قلق أميركا هو على أمن إسرائيل مِن لبنان. وهذه معادلةٌ كان يمْكن أنْ تثير الضحك والسخرية في لبنان ما قبل الحرب: إسرائيل تخاف مِن لبنان. كان العدو يستمتع بالاستهزاء بقدرات لبنان العسكرية في تلك الأيام عندما كان يقول إنّ الفرقة الموسيقية للجيش الإسرائيلي تكفي للسيطرة على كلّ لبنان. ستكون هناك عوامل مختلفة في تحديد احتمالات الحرب أو السلم/ أو وقف النار بكلامٍ أدقّ لأنّ السلم مستحيلٌ بيْن قوىً مصممةٍ على مقارعة إسرائيل حتّى النهاية، والكيان الاحتلالي.
ليس مِن وقتٍ أفضلَ لاستيعاب فكرة أنّ السلام مع إسرائيل مستحيلٌ ليس مِن منطلقٍ قومي عربي أو إسلامي أو مِن منطلق الرفض المطلق للصهيونية وإنما مِن منظور الصهيونية نفسه: إنها لا تسمح بفكرة السلام لأنّ العقيدة المؤسّسة للكيان تفترض وتتطلّب إذعاناً تامّاً مِن قِبَل السكّان المحلّيين وسكّان البلدان المجاورة الذين عليهم بموتهم تشكيل حزامٍ أمني للمستوطنين الصهاينة.
القول إنّ هناك في لبنان مَن يقرّر الحرب أو السلم مِن دون مشورة الدولة يجب أن يكون مصدر اعتزاز لأنها المرّة الأولى التي يُمْكن فيها لطرفٍ في لبنان أن يُحدد أو يؤثّر على مسار الصراع مع إسرائيل، ولصالح لبنان. قبْل المقاومة كان لبنان متلقّياً للعدوان غيْر فاعلٍ في الصراع، ما أضعفه داخلياً وساهم في تشقّق الدولة والمجتمع والجيش.

* كاتب عربي - حسابه على «اكس»
asadabukhalil@