«شهر العسل» الذي بدأ في الثاني من أيار الجاري، بين السلطة والمعارضة، بالكاد أتمّ أسبوعه الثاني، قبل تفخيخه بصاعق أعدّته السلطة بإتقان، عبر القضاء التركي، لينفجر أوّلاً بالحركة الكردية، وتالياً بمسار المصالحة المفترض مع المعارضة، وخصوصاً «حزب الشعب الجمهوري». فقد أصدرت «محكمة العقوبات الثقيلة الرقم 22» في أنقرة، حكمها النهائي في ما بات يُعرف بـ»أحداث كوباني»، والذي تضمّن سجناً لسنوات طويلة لبعض زعماء الحركة الكردية، وتخلية آخرين؛ علماً أن القضية لا تقتصر فقط على صلة بعض المتّهمين بـ»أحداث كوباني» في عام 2014، بل بتهم أخرى، من مثل الانتماء إلى «حزب العمال الكردستاني»، وحمل السلاح، والعمل على تخريب الوحدة الوطنية.وحصلت «أحداث كوباني»، يومَي الـ 6 والـ 7 من تشرين الأول 2014، عندما نزل الأكراد إلى الشوارع في المدن الكردية في جنوب شرق البلاد، احتجاجاً على رفض الحكومة التركية السماح لمقاتلين من «العمال الكردستاني» بالعبور من شمال العراق عبر الأراضي التركية والدخول إلى سوريا للمساعدة في الدفاع عن مدينة عين العرب (كوباني) التي كانت تتعرّض لهجوم تنظيم «داعش». وقد تخلّل الاحتجاجات، وقتها، مواجهات عنيفة بين المتظاهرين وقوى الأمن، وتخريب المنشآت العامة، ومقتل 35 شخصاً واثنين من الشرطة، فيما اعتُقل أكثر من 100 شخص بتهم من قبيل «دعم منظمة إرهابية» و»حمل السلاح». وإذ بدأت التحقيقات في القضية عام 2014، إلّا أنّ المحاكمة بدأت فعليّاً في عام 2020 عندما اعتُقل 17 مسؤولاً من قياديّي «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي بتهم مختلفة.
وأصدرت «محكمة العقوبات الثقيلة» في أنقرة، أول من أمس، أحكاماً بالسجن على 13 متّهماً، وإطلاق سراح خمسة بعدما أمضوا محكوميّتهم، وتبرئة 12 آخرين. ومن أبرز المحكوم عليهم: صلاح الدين ديميرطاش، الرئيس السابق لـ»حزب الشعوب الديموقراطي»، الذي اعتقل في عام 2016 أولاً بتهمة تحقير رئيس الجمهورية، ومن ثم بالانتماء إلى منظمة إرهابية، وبلغ مجموع الأحكام في حقّه 42 سنة سجناً؛ وفيغين يوكسيك داغ، الرئيسة السابقة للحزب، وبلغ مجموع الأحكام في حقّها 30 سنة سجناً؛ وأحمد تورك، الرئيس الحالي لبلدية ماردين، وحكم عليه بعشر سنوات.
جاءت الأحكام في «أحداث كوباني» في توقيت سيّئ، وشكّلت ضربةً قويّة لجهود المصالحة


وقد تركت الأحكام صدمة في الوسط السياسي والاجتماعي، وأحدثت ردود فعل غاضبة. فزعيم «حزب الشعب الجمهوري»، أوزغور أوزيل، الذي توجّهت إليه الأنظار لمعرفة رأيه، كونه الشخص الأول المعني بمسار المصالحة مع السلطة، رأى أنّ «القضية ليست قانونية، بل سياسية»، قائلاً إنها «دعوى فُتحت بعد خمس سنوات على الأحداث، وطاولت رؤساء أحزاب سياسية، وأحكامها غير مقبولة». من جهته، تحدّث رئيس «حزب الديموقراطية والمساواة للشعوب» الكردي، تونجير باقر خان، عن أن «القرارات ترسم خطوط السياسة للمرحلة المقبلة، وهم لن يعترفوا بها». وقال إنه «في وقت يُطلق فيه سراح زعماء المافيات، يُلقى بالأكراد في آبار الأسيد. القرارات هي انتقام من نتائج الانتخابات البلدية». ووفق الرئيسة الأخرى للحزب، تولاي خاتم أوغوللاري، فإن «القرارات تأخذ بالعصا ما فشلوا في أخذه بالسياسة... سوف تدخل البلاد في دهاليز الظلمة». ورأى أحمد تورك، بدوره، أن «القرار أخذه السياسيون وليس القضاء»، واصفاً إيّاه بأنه «انقلاب وضربة للأخوّة بين الشعوب في تركيا... البعض في تركيا يريد إسكات الأكراد وإجبارهم على التخلّي عن حقوقهم». وفور صدور الأحكام، أصدر المحافظون قراراً بمنع التجمّعات والتظاهرات وكل أنواع الاجتماعات لمدّة أربعة أيام، في عدد كبير من المدن الكردية، منها: ديار بكر، وماردين، وبينغول، وسعرت، وديرسيم، وفان، وشيرناق، وآغري، وباتمان.
أما أوّل ردود الفعل من جانب السلطة، فجاءت على لسان نائب وزير الداخلية، بولنت طوران، الذي رأى أن «الذي يسعى إلى تخريب البلد نال عقابه. العدل أخذ مجراه»، فيما قال مستشار رئيس الجمهورية، محمد أوتشوم، إن «القضاء في تركيا مستقلّ ومحايد... ومهما كان شعورنا بالفخر بقضائنا كبيراً، يبقى قليلاً».
على أن القرار سيترك أثره البالغ في الحياة السياسية التركية؛ فهو جاء في توقيت سيئ، وشكّل ضربةً قوية لجهود المصالحة، أو ما يمكن اعتباره «إراحة» مناخات التشنّج التي سادت في السنوات الأخيرة، والتي تزامنت مع الصراعات والاستحقاقات الانتخابية، وآخرها الانتخابات البلدية في نهاية آذار الماضي. وتضع قرارات المحكمة في حقّ الأكراد، زعيم «حزب الشعب الجمهوري» المعارض، أمام امتحان حرِج بالنسبة إلى مسار المصالحات الجديد، كونه يشكّل حجر الرحى فيها. ومع أن أوزيل قال، بعد صدور القرار، إنه لا يثق بإردوغان، ولا يمكن أن يثق بأحد، إلا أنّ استمراره في مسار المصالحة قد ينعكس سلباً عليه. فالقاعدة الكردية شكّلت، على مدى السنوات الماضية، الحليف الضمني لـ»الشعب الجمهوري».
ويَنظر معظم المراقبين إلى قرارات المحكمة باعتبارها عقاباً للأكراد على موقفهم في الانتخابات الأخيرة، والتي شكّلت، منذ سنوات، أحد أسباب تراجع شعبية «حزب العدالة والتنمية»، فجاءت هزيمة هذا الأخير في الانتخابات البلدية لتفاقم الغضب على المكوّن الكردي والرغبة في الانتقام منه. وربّما تعقبها إجراءات أخرى لإضعاف الحالة الكردية من خلال العودة مجدّداً إلى سياسات إقالة رؤساء بلديات أكراد وتعيين موالين بدلاً منهم، وصولاً إلى محاولة إغلاق «حزب الديموقراطية والمساواة للشعوب» الكردي الممثّل بـ 60 نائباً في البرلمان.