لطالما شكّلت العلاقات السورية - الصينية، تاريخياً، وحاضراً خلال السنوات العشر الأخيرة، محلّ جدل وتنظير بين المراقبين والمحلّلين. في سنوات ما قبل الأزمة، ولأكثر من 40 عاماً سابقة على الحرب، كانت تلك العلاقات تتّسم بالصداقة والتعاون، حيث «تعدّ سوريا من أوليات الدول التي أقامت علاقات مع الصين الجديدة»، على حدّ تعبير الرئيس الصيني، شي جين بينغ، خلال لقاء القمّة أمس، مع الرئيس السوري، بشار الأسد. لكن، خلال سنوات الحرب، راقب كثيرون الموقف الصيني بحيرة، إذ حافظت الصين على موقف سياسي داعم للنظام الحاكم في دمشق، واستخدمت 8 مرات حق النقض «الفيتو» ضدّ مشاريع قرارات دولية تستهدف سوريا وحكومتها. لكن، في المقابل، لم يُرصد أي تحرّك فعلي، لا على المستوى العسكري ولا الاقتصادي ولا الإنساني (إلا النزُر القليل في هذا المجال الأخير)، لجمهورية الصين الشعبية على الأرض السورية. وعلى رغم الأزمات الكبرى التي خلّفها القتال في سوريا، على المستويين الاقتصادي والإنساني بشكل خاص، لم تُسجّل للصينيين أي مبادرة جدّية على هذين المستويين، طوال السنوات الماضية، فيما تلقّت دمشق دعماً كبيراً ونوعياً، مباشراً وغير مباشر، من حلفائها في طهران وموسكو وقوى «محور المقاومة»، على المستوى العسكري، ما أدّى إلى حسم غالبية المعارك الكبرى التي خيضت، لصالح الجيش السوري.لكن، إيران بشكل خاص، اضطلعت بدور داعم للحكومة السورية على المستوى الاقتصادي، بدءاً بالقروض النقدية، وليس انتهاءً بالخط الائتماني، الذي تزوّدت عبره دمشق ــــ ولا تزال ــــ بمختلف أنواع المحروقات الإيرانية، في ظلّ الحصار الغربي المفروض على السوريين، والاحتلال الأميركي لمنطقة شرق الفرات الغنية بالموارد النفطية. ومع انتهاء الحرب بشكلها «الخشن»، وخمود الجبهات خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، تحوّل اهتمام الحكومة السورية، وحلفائها أيضاً، إلى البحث عن سبل ترميم ما خرّبته الحرب، في البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ووجدت دمشق، ولمست لمس اليد، أن حليفتَيها البارزتين، إيران وروسيا، غير قادرتين على النهوض بالعبء الاقتصادي، وخصوصاً الملفّ الثقيل المتمثّل في إعادة الإعمار بمختلف تفرّعاته، حيث تبلغ كلفته عشرات مليارات الدولارات، في أكثر الأرقام تفاؤلاً.
بناءً على ما سبق، عاد الحديث عن العلاقات السورية - الصينية، وإمكانية أن ينسحب الدعم الصيني السياسي لدمشق، على المستوى الاقتصادي، خصوصاً أن الصين من الدول القليلة في العالم، التي تمتلك القدرة على الانخراط في حملة ضخمة لإعادة إعمار سوريا. وأخيراً، مع تعكّر الصورة الصافية التي خلّفتها عودة دمشق إلى «جامعة الدول العربية» في أيار الفائت، ثم حضور الرئيس الأسد القمة العربية في جدة السعودية، وذلك بفعل الضغوط الأميركية أولاً، والشروط العربية الصعبة والتعجيزية، ثانياً، وجدت سوريا نفسها أمام خيارات محدودة ومعقّدة في مسألة تأمين التمويل اللازم للشروع بحملة إعادة إعمار، ولو جزئياً. ولا يعني هذا أن بكين قد استُبعدت يوماً من خيارات دمشق، إلا أن موقع الخيار الصيني، ضمن لائحة الخيارات السورية، تعزّز وتميّز بنوع من الفرادة التي فرضتها الوقائع والتطورات السياسية.
موقع الخيار الصيني، ضمن لائحة الخيارات السورية، تعزّز


في المقابل، لطالما أُخذ على الصينيين عدم امتلاكهم برنامج عمل واضحاً يخصّ دول شرق المتوسط، وبالتحديد سوريا ولبنان وفلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة). كما لم يبدِ الصينيون، على امتداد سنوات طويلة، أي حماسة للانخراط في تعاون مع حكومات هذه الدول، باستثناء مبادرات خجولة جداً، لا ترقى إلى مستوى حجم الصين الاقتصادي والسياسي، ولا إلى مستوى تطلّعات هذه الدول في اتجاه قوة دولية مركزية، كالصين. وبمعزل عن لبنان وفلسطين، حيث لكلّ منهما تعقيداته السياسية والأمنية الداخلية، تبدو سوريا الدولة الأكثر تضرّراً من الإحجام الصيني عن إطلاق برنامج عمل بخصوص المنطقة أو بخصوصها بشكل خاص، ذلك تبعاً لموقع سوريا في الانقسام الدولي، أي في المعسكر الذي تقوده الصين وروسيا وإيران، في مقابل المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية؛ وأيضاً تبعاً لحاجاتها وظروفها الاستثنائية في ظلّ الحرب، وما بعدها. ولطالما سأل المسؤولون السوريون، ومسؤولون في دول أخرى قريبة من دمشق، نظراءهم الصينيين عن حقيقة موقف بكين وبرنامجها بخصوص سوريا، ولطالما كانت إجابات هؤلاء الأخيرين تنحصر بالمستويين السياسي والأمني، خصوصاً لناحية اهتمام الحكومة الصينية بالمقاتلين «الإيغور» الذين تواجدوا - ولا يزال عدد منهم - في شمال سوريا، وتحديداً في ريفَي حلب وإدلب.
وفي حين ركّزت الصين تاريخياً على شراكاتها التجارية الموسّعة في منطقة الشرق الأوسط، وتجنّبت الانخراط في الصراعات والاصطفافات السياسية، عادت بكين وفاجأت الكثيرين في آذار الفائت، عندما توسّطت في اتفاق «مصالحة» بين السعودية وإيران، يبدو أنه ناجح إلى الآن. ومع انضمام سوريا إلى مبادرة «الحزام والطريق» الصينية، قبل أقلّ من عام، تعزّز الاعتقاد لدى دمشق وبكين، بضرورة تعزيز العلاقات بينهما، وبضرورة أن تقود الصين مبادرات أكثر جرأة في سوريا، بعيداً عن سياسة «الحذر المفرط» التي كانت تنتهجها. وأخيراً، مع إطلاق الهند مبادرة «الممرّ الهندي»، تعزّزت القناعة الصينية بضرورة العمل أكثر في اتجاه دول المنطقة، التي هي خارج الفلك الأميركي - الغربي. وتضاف إلى ذلك، أهمية موقع سوريا بالنسبة إلى الصين، حيث تقع بين العراق، الذي يزوّد بكين بنحو عُشر احتياجاتها من النفط، وتركيا، التي تمثّل نهاية الممرّ الاقتصادي الصيني الذي يمتدّ عبر آسيا إلى أوروبا.
وهكذا، تأتي زيارة الأسد للصين، في ظلّ ميلٍ صار ملموساً لدى بكين، نحو العمل على تعزيز نفوذها الدبلوماسي في الشرق الأوسط وأفريقيا، بالتزامن مع عودة سوريا إلى «الجامعة العربية»، وانطلاق مسار خروجها من عزلتها الإقليمية. ومن الناحية السورية، تمثّل هذه الزيارة خطوة متقدّمة لدمشق في اتجاه إنهاء عزلتها الدبلوماسية الدولية، التي رعتها واشنطن لسنوات. وفي حين أن دعوة الأسد إلى بكين تشكّل تطوّراً مهمّاً في أداء الصين في المنطقة على مستوى توسيع النفوذ السياسي والاقتصادي، فإنها في حال تُرجمت عملياً، ستشكّل نقطة تحوّل كبيرة بالنسبة إلى سوريا التي ترزح تحت ضغط العقوبات والحصار الغربي، وتعاني من احتلال أميركي لا يبدو انسحابه وشيكاً من شرق الفرات. كذلك، فإن هذه الخطوة لا تبدو بعيدة بأي شكل، عن كون سوريا ساحةً لتصارع القوى الدولية، وخصوصاً الولايات المتحدة وإيران وروسيا المنشغلة بالحرب الأوكرانية، والتاركة وراءها فراغاً قد تشعر الصين برغبة في ملئه.