يقول الناقد والأكاديمي والكاتب المغربي حميد لحميداني إنّ الاهتمام بدراسة علاقة الرواية بالواقع الاجتماعي، والنظر إليها بوصفها مكوّناً يقابل المجتمع، بدأ «بهدف الكشف عن الظاهرة الاجتماعية، ومواجهتها بالواقع الفعلي، انطلاقاً من الرؤية التي تؤطّر العمل الإبداعي. رؤية لا تطابق بالضرورة هذا الواقع الذي يكتب عنه الروائي». فهل طرحت «خيط البندول» (دار نوفل) لنجاة عبد الصمد ظاهرةً اجتماعيةً واضحةً ومحددةً ووحيدةً؟اختارت الطبيبة والكاتبة نجاة عبد الصمد، لنصّها موضوعاً صعباً وشائكاً، ليس لما فيه من واقعية قد تدخلها في الاستسهال والمستهلَك، بل لما فيه من معلومات طبية، وخصوصية يعرفها الطبيب ويفهمها ويستطيع التعامل معها بوصفه طبيباً، ولكن هل يمكن أن يذيبها في السرد، فتصبح مكوّناً مضافاً على مكوّنات الرواية، مُسهماً في الإمتاع والنَّفع وبثّ المعلومات في آن معاً؟ هنا مكمن الحرفية التي أثبتتها كاتبتنا. تبدأ الرواية بلقاء الدكتور أسامة بأستاذه ومرشده وصديقه الدكتور مختار عام 2007. يروي حكايته ومعاناته، ويُذكَر آدم سريعاً. تبدأ الحكاية في قرية زعفران السورية المتخيَّلة عام 1993، وبداية قصة أسامة ونداء. نعرف أنها عانت من نزيف وأجريت لها عملية في غياب زوجها الطبيب، الملتحق بالخدمة العسكرية الإلزامية. وفيما يخوض الزوجان لاحقاً رحلة طفل الأنبوب، يُخيَّل إلينا بأنّ عملية من عمليات تلك الرحلة ستنجح، وسيولَد ابنهما آدم أخيراً، ثمرة الحبّ والتفاهم والصبر والمعاناة.


يستمر المتلقّي في القراءة، ويتعثّر قليلاً كي يكتشف من الذي يروي في بدايات بعض الفصول. لذا، يحاول ردّ النصّ إلى أنه رواية بوليفونية، أي متعددة الأصوات، لكنها لم تكن كذلك. رغم تعدد الشخصيات المرويّ عنها، والراوية أحياناً، إلا أنها لم تتبع بكلّيتها ذلك الأسلوب، فحضور الراوي العليم الخارجي بقي طاغياً. وهنا يمكن أن نقول إنّ جديداً ما قدّمته الرواية في هذا المجال، ولكن لا يمكننا التوسّع فيه، رغم بعض العثرات التي تواجه المتلقّي. أسامة الطبيب يكرّر أنه دائم التأثّر والحزن لأنه طبيب نسائي لا يستطيع مساعدة زوجته، عبر الحمل الطبيعي، رغم أنّه ساعد مئات أو آلاف النساء. تبدأ الرحلة مع قرار نداء بخوض غمار التجربة، في عمّان بداية، ثمّ في بيروت، وبعدها في دمشق عندما أصبحت هذه العمليات متاحةً. أرادت عبد الصمد في بداية نصّها أن تقول إنّ طفل الأنبوب لم يكن مقبولاً، عندما بدأت ثمار تلك التجارب تنجِب أطفالاً. لذا أرادت أن تخفي رحلتها وتجاربها عن جميع من تعرفهم، وبالفعل استمرّت بهذا الإخفاء، واستمرّ السر مرافقاً لكل محاولاتها، التي تطالعنا الرواية في نهايتها بأنها وصلت إلى عشرين محاولة، لتقول إنّ المهندسة والطبيب ابنا بيئة ما زالت تحكمهما أعراف وتقاليد لا تقبل كل جديد وإن كان طبيّاً. لقد رضخا ولم يواجها المجتمع بما يفعلانه. ولكن العمل لم يركّز على هذا الطرح، ولا على النقد السياسيّ والاجتماعي في البلاد التي واجهت خراباً وحرباً ما زالت دائرة حتى اليوم، إلا في نهايتها عندما يعترف أسامة لنفسه ولنا مستذكراً كيف لامته نداء لأنّه لم يكن معها يوم نزفت، قائلاً: «اللعنة على الخدمة العسكرية وعلى الأوطان التي غيّبتني في خدمتها وحبيبتي تنزف. لكنني الآن هنا قربك، والنظرة الأخيرة شاهدة على الحبّ أكثر من الأولى».
كثرت في الرواية الوقفات والخروج عن خطّ السرد المتعلّق ببطليها، لتسرد عمّن حولهما. كان السرد يطول ويعطي الشخصيات الأخرى حقّاً قد يجد المتلقّي أحياناً أنّه ليس لها، بل هو يريد أن يلاحق أخبار نداء ورحلتها، لكن عندما ينتهي من سردٍ حول شخصية أخرى، تعيده الرواية إلى رابط قويّ، حان وقته، ليرفد قصة نداء وأسامة بالكثير. هكذا، روت الكاتبة عن بنفسج وشهلا وجدعة، ووردة وفريدة وشيرين وشامخ وأدهم وزاهي وغيرهم... وقد قرأنا قصصاً عن هؤلاء بتفاصيلها. في بداية هذا الخروج عن الخطّ، يُخيّل إلينا أنها رواية نسوية، بحيث أرادت المؤلفة أن تحكي عن نسائها فقط، ولكنها سردت عن الرجال الكثير أيضاً.
قصص كثيرة اكتنفت نقداً اجتماعياً وسياسياً لاذعاً


قصة آدم والاغتصاب وما نتج منها، وقصة شامخ، وقصة الطبيب النقيب وابتزازه، والكثير من القصص اكتنفت نقداً اجتماعياً سياسياً لاذعاً، ومنها قصة الأطباء الذين تخرّجوا أيام الاتحاد السوفياتي، التي مررتها الكاتبة، كما مررت معلوماتها الطبية بشكل سلس وجذاب وبذكاء وحنكة، فهي أرادت أن تفتح قضايا وأسئلة حولها، ولكن ربطها دائماً بالطبيب والمهندسة العقيمة، ومعاناتهما الإنسانية، كان أقوى وأعمق وأكثر تأثيراً بالمتلقي، وهنا مكمن القوة الذي ميّز الرواية.
المأخذ الوحيد على الرواية هو كثرة الحكايات المرتبطة بشخصيات قد تتخطى العشرة، وقد ينهي القارئ النصّ وهو بالفعل ما زال لا يفرّق بين أحداث القصص التي قرأها، فيما لم تركّز الرواية بشكل كاف على شخصية زاهي المركّبة والمستفزّة. هذه الشخصية تستأهل بأن تكون لها رواية منفصلة، لما فيها من جمالية قد تُخلَق على يد روائية محترفة وحذقة كنجاة عبد الصمد.