على حين غرّة ميلادية، وبالضد من كل المناخات المسيطرة على العالم بفعل اللحظة الغزاوية المجيدة وما توجبه، سياسياً وأخلاقياً وإنسانياً، من أشكال تضامن ومظاهر دعم وعمليات إسناد شعبي وأهلي، صدح أجشّ الأصوات. والأرجح أن الصوت هذا ما كان ليصدح بما صدح به لولا «خارج» معروف وجّه، «داخل» مكشوف امتثل.«عظة» بعد «عظة»، وإطلالة بعد أخرى، والمعزوفة المشروخة إياها. لا مضمون يبنى عليه، ولا معنى يعتدّ به. بل مجرد ثرثرة موجهة إلى «الخارج» المشغل أو «الراعي الرسمي». ومحض هذيان موجه إلى الداخل يراد منه التأليب على من يدافع عن الأرض، أو التحريض عليه. وإذا كان هناك من جديد، وهذا أمر مستحيل الحدوث إلا في حالات الإضافة على مضمون الأجندة السوداء، وبطلب مباشر من المشغل أو من ينوب عنه من أدوات صدئة، فينحصر في توفير الإيضاح المتزايد لأبعاد «المخبوء» التآمري على منعة البلد واستقراره الهش، ومحاولة يائسة لملاقاة الحرب الجارية ضد الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية المحتلين. فمع كل عظة «سياسية» يتكرر الإسهال إياه حول الحيادية المزعومة والمقرونة في مفارقة يصعب فهمها، مع «توسل» الخارج الدولي والإقليمي للتدخل، وتوظيف تدخله في لعبة الموازين الداخلية من نوع ما حصل مؤخراً وأفضى إلى التمديد السياسي لقائد الجيش. وهو التمديد الذي ما كان له أن يمر لولا الضغوط الدولية والإقليمية الوقحة والسافرة في تعارض مفضوح مع نكتة الحياد السمجة. ففي ظل هذه النكتة، يتواصل الصمت المخزي الذي تمارسه قوى وأحزاب وشخصيات لا تفتأ تتغنى بالاستقلالية الفارغة من المضمون، والمقرون بتغافل مفضوح عن عدوان السفارات اليومي على السيادة والقانون... والذي هو، في الواقع، امتداد للاعتداءات الإسرائيلية اليومية على البلد.
تزداد الصورة وضوحاً ومعها الأهداف. فالإصرار المحموم والمكشوف على ممارسة التحريض وزرع الشقاق والسعي نحو الفتنة الداخلية يندرج، بهذا الشكل أو ذاك، في السياق الدولي المرسوم في عواصم الحرب والعدوان الإقليمية والدولية من واشنطن إلى باريس إلى تل أبيب وبرلين مروراً بالرياض والدوحة وأبو ظبي وغيرها.
لا شك في أن المواقف التي أذاعها الرجل أكبر منه بكثير. وهو لا يعدو في أحسن الأحوال أن يكون مجرد واجهة في حرب تتجاوزه ومعه كامل اللفيف السياسي والثقافي المكمل.
لا يريد «الرجل» التخلي عن مربعه الذي اختير له. والأرجح أنه لن يفعل حتى لو تسنى له ذلك. فإحجامه المتكرر عن الاستفادة من المرات الكثيرة السابقة التي أتيح له فيها أن يفعل دليل قاطع على طبيعة ما هو «منذور» له. فضلاً عن حقيقة أنه مبرره الوحيد للتصدّر ولفت الأنظار. ثم أن الرجل، وبحسب العارفين قبل غيرهم، لا يملك ما يؤهله للاجتهاد. وإن صدف وعثر في محيطه على ناصح يدله على بعض الصواب لعجز عن الأخذ بالنصيحة. فالتزاماته تجاه من أصعده، حتى لا نقول من أوجده، لا تترك له المجال لأي تراجع. فالرجل لا يملك أن يخالف فطرته بوصفه لسان تحريض وعقل فتنة وأداة حرب.
قد لا يكون الرجل على بينة مما يقول أو يفعل. فإمكاناته الذهنية، على ما صار معروفاً، بالغة التواضع. فضلاً عن أن عن معارفه السياسية، ربطاً بالوقائع المعروفة والمتداولة، لا تخولانه الإحاطة بطبيعة ومرامي ما يتولى إذاعته من على منبر تخصص في حماية اللصوص من أمثال رياض سلامة أو الدفاع المستميت عن المرضى والمهووسين من أمثال بطرس لبكي... وهو لن يتورع في سبيل إتمام «الواجبات» عن زرع الشقاق وبث السموم ورعاية الفتن وكشف البلد أمام كل عدو.
فالرجل صاحب الجبة السوداء والقلنسوة الحمراء في عظته الخارجة عن السياق قد كشف مجدداً عما هو معروف ومتداول، لجهة أن هناك فعلاً وقولاً من يصر على استدبار الفتنة ويستعجل وقوعها. خصوصاً أن الراعي الأساس صاحب المصلحة في كشف الداخل اللبناني يحتاج إلى من ينوب عنه بعدما أدرك عجزه عن التهويل وخلافه.
يراد للعظة المشبعة بالحقد والضغينة أن تتصدى للسلاح النبيل الذي حرر الأرض واستعاد الكرامة، وأن تتقدم أو تواكب ما يجري في غزة جنباً إلى جنب مع الغارات السياسية والثقافية التي تريد النيل من الإرادة النبيلة التي لولاها ولولا ما أتاحته لضاع البلد كل البلد.
في غياب معايير الحد الأدنى الوطنية والأخلاقية أو تغييبها يصير في متناول أي كان قول ما يراد منه قوله من دون خشية التبعات ولو قادت إلى المزيد من الدماء.