«إن تفكيك الإنسان إلى يهودي ومواطن، إلى بروتستانتي ومواطن، إلى إنسان متدين ومواطن، هذا التفكيك ليس كذبة ضد المواطن، ولا التفافاً على التحرر السياسي، إنه التحرر السياسي نفسه» - كارل ماركس، «حول المسألة اليهودية»

في الآونة الأخيرة، أي بعد أحداث ما يسمّى «الربيع العربي»، راجت دُرجة بين بعض المثقفين ألا وهي الحديث عن دولنا باعتبارها دولاً غير مكتملة لم تنجز تحررها السياسي بعد. وأنها دول أشخاص وليست دول مؤسسات. ولهذا إن مجتمعاتنا ممزقة لم تصل إلى حالة «المجتمع المدني» على اعتباره النموذج الأمثل. حتى أن البعض يذهب إلى التشكيك بقيام «دولة» حقيقية في البلدان العربية، ويصف دولنا بأنها عبارة عن محاولات لقيام دولة، وليست قيام الدولة الحقيقية الكاملة، إذ باءت كل تلك المحاولات بالفشل. وطبعاً يؤول الحديث في نهايته إلى أننا، نحن «العرب» كما يقولون، عاجزون عن إقامة دولة من دون مساعدة المستعمِر، ذلك الذي يمتلك النموذج الأمثل للدولة الكاملة!
في هذه المادة نحاول الاستفادة من الأحداث والتعليقات السياسية الجارية حول انتخابات الجمعية الوطنية في فرنسا لا للقول إنّ دولنا دول كاملة أو أنها دول مؤسسات، فالقائلون محقّون في ذلك في معظم الحالات، بل الهدف هنا هو نقد جهاز «الدولة» في شكله الأمثل والأكمل كما يحلم به أولئك المنتقدون.
التحرّر السياسي بالنسبة إلى الدولة يعني تحرّرها من أي دين، أي تصبح دولة سياسية، دولة كاملة في تمثيلها لكل الأفراد لا دولة دينية ناقصة تمثل جماعة دينية معينة. أي إنها تعتبر جميع المواطنين سواسية مهما كان دينهم أو عقيدتهم أو عرقهم، إلخ. فالشعار الذي يقول «حرية، مساواة، أخوة» والذي طرحته الثورة الفرنسية 1789 يؤكد ذلك. ولكن «الدولة» التي أنجزت مهمة التحرر السياسي، أي تحرير السياسة من الدين وتحرير الدين من السياسة، ليس من مهماتها تحرير الإنسان من دينه أو من معتقده، ولا إخراجه من عرقه ولا من شروطه وظروفه المادية... إلخ، بل تتركه وشأنه الخاص. أي إن كل فرد في هذه الدولة المكتملة هو مواطن بالنسبة إلى الدولة وإنسان متدين في شأنه الخاص وحياته المدنية الخاصة، كما أنه مواطن بالنسبة إلى الدولة وإنسان يتبع لعرق ما أو معتقد ما، أي إن الإنسان هنا مُفكك حسب كلام ماركس في «المسألة اليهودية». وأضيفُ أنه مزدوج؛ فهو مواطن وشيء آخر اسمه «إنسان» ذو شأن خاص. وهذه الازدواجية بدأت مع الثورة الفرنسية عند قيامتها عندما طرحت نوعين من الحقوق: حقوق الإنسان وحقوق المواطن! «الحقوق الأولى هي حق الأفراد في التملك. والثانية هي الحقوق العامة السياسية، أي حق المشاركة في السياسة وإدارة الشؤون العامة» (نايف سلوم، المسألة اليهودية – تلخيص كتاب ماركس) هذه الازدواجية هي نتاج اكتمال الدولة البورجوازية وهذا هو التحرّر السياسي «العظيم» المنشود من قبل معظم مثقفينا.
بالعودة إلى دولة المواطنة في فرنسا، فإن الحقوق السياسية مكفولة بالنسبة إلى جميع المواطنين المتمتعين بحمل الجنسية الفرنسية بغض النظر عن دينهم وعرقهم وأصلهم وفصلهم. أي إنهم جميعاً متساوون كمواطنين ولهم حقوقهم الخاصة. كما أن الانتخابات لا تجري على أساس الدين أو العرق، بل إن الانتخابات تقوم على أساس المواطنة وبكل ديموقراطية. لكن إذا ما هجرنا سماء المقولات السياسية الفضفاضة وانتقلنا إلى الإنسان الفرنسي الواقعي «المفكك»، فنجد أن إنسان الدولة الكاملة (البورجوازية) وإنسان المجتمع المدني في فرنسا ذو وجود مزدوج (مواطن – إنسان): هو مواطن فرنسي عام بالنسبة إلى الدولة وإنسان مسلم. هو مواطن فرنسي وإنسان يهودي. مواطن فرنسي وإنسان مهاجر. مواطن عام وإنسان من ذوي أصول إفريقية... إلخ.
وعلى أرض الواقع، تأتينا المفاجأة عندما نرى بأم العين تفاهة مفهوم المواطنة البورجوازي ومجتمعه المدني عندما نراقب ممارسات الأحزاب والجبهات السياسية المتصارعة اليوم في فرنسا. فالمستهدف اليوم في الحملات الانتخابية هو ليس المواطن الفرنسي «العام» على الإطلاق، بل المستهدف هو الإنسان «الخاص». أي ذلك الإنسان المسلم والمهاجر والأفريقي والفرنسي أباً عن جد... إلخ. أمّا المواطن، فهو صورة وهمية متخيلة تحاول تأكيد وهم «المساواة». فمن بعد محاولة ماكرون ترهيب الفرنسيين بخطر نشوب حرب أهلية في فرنسا إذا ما استلم أحد الأحزاب المتطرفة (اليسار المتطرف واليمين المتطرف) الحكم، ومن بعد اتهامه لحزب التجمع الوطني (اليمين المتطرف) بأنه يعتمد في حملته الانتخابية على إثارة النعرات العنصرية والعصبية القومية الفرنسية، ومن بعد اتهامه للجبهة الشعبية الجديدة (اليسار المتطرف) بمعاداة السامية ودعم فلسطين و«حماس» من أجل كسب تأييد المسلمين، تكتمل الصورة وضوحاً بالنسبة إلينا: لا وجود للمساواة في فرنسا لأنه لا وجود لـ«المواطن» الفرنسي في هذه الانتخابات، بل الموجود هو الهويات المختلفة (اللامتساوية بالنسبة إلى الدولة). الموجود هو ذلك المتخوف من المهاجرين والمسلمين، فتراه يصوّت لحزب التجمع الوطني، والمسلمون الخائفون من صعود اليمين المتطرف يصوّتون إمّا للكتلة الوسطية أو لليسار المتطرف، وكذلك المهاجرون وذوو الأصول الأفريقية. هذا كله ولم نتحدّث بعد عن تفصيل غريب في المشروع الانتخابي لليمين المتطرف والذي يمنع مزدوجي الجنسية (مواطن فرنسي ولكنه يتمتع بجنسية أخرى) من تولي مناصب إستراتيجية بعينها مثل «المناصب الإستراتيجية في الدفاع والأمن»! هنا يكتمل تذرر الفرد في المجتمع المدني الفرنسي بين نوعين من المواطنين ولكل منهما إنسانه الخاص!
في كرّاسه «حول المسألة اليهودية»، ينتقد ماركس الدولة الكاملة (الديموقراطية البورجوازية) التي وقفت عند التحرّر السياسي لتقدّم لنا الفرد المُفكك بحقوقه الأنانية الفردية الخاصة، وحقوقه العامة كـ«مواطن»! مؤكداً أن المساواة الحقيقية لا تتحقق إلا بعد تحرّر الإنسان من كل ما يميّزه عن الإنسان الآخر. أي التحرّر من كل تلك الحقوق الفردية التي تمايز بين البشر وأوّلها حق التملك والتصرف بما يمتلك وصولاً إلى تحرره من عرقه وقوميته. إذ لا يمكن أن يتم ذلك إلا عبر تحطيم جهاز الدولة البورجوازية ذاته الذي هو جهاز في خدمة وحماية هذه التمايزات والامتيازات.
ونحن هنا إذ نقدّم نقدنا للدولة الكاملة، فهذا لا يعني على الإطلاق مديح دولنا بعيوبها ومشكلاتها وغياب الديموقراطية فيها، بل القصد من وراء ذلك هو نقد البعض الذي يرى في نموذج الدولة الغربي النموذج الكامل والأمثل والأبدي الذي لا يصدأ.
وأخيراً نردد مع ماركس: «التحرّر السياسي هو تقليص الإنسان إلى عضو في المجتمع البورجوازي، أي إلى الفرد الأناني المستقل من جهة، وإلى المواطن المعنوي من جهة أخرى».

* كاتب سوري مقيم في ووهان الصينية