لا يزال الحديث عن الجديد في تأثيرات القضيّة الفلسطينيّة ومجرياتها بعد غزة. إنّ اعتراف إسرائيل أمام العالم بقتلها عشرات الآلاف من الفلسطينيّين. أمام أكثر مِن 37 ألف ضحيّة فلسطينيّة تقول إسرائيل إنها نجحت في قتل نحو عشرة آلاف مِن مقاتلي «حماس»، وهذا اعترافٌ صريحٌ بقتل أكثر مِن 20 ألف ضحيّة مدنيّة فلسطينيّة. هذا الاعتراف القانوني مِن شأنه في يوم مِن الأيّام محاسبة إسرائيل أمام القانون الدولي عندما تفلت مِن تحت سيطرة الدولة العظمى. يستطيع العرب ملاحقة إسرائيل بجرم قتل هذا العدد الهائل مِن الفلسطينيّين. والغريب أن إسرائيل اعترفت بذلك لأنها لم تكن في الماضي تعترف صراحةً بجرم الإبادة. لا تستطيع إسرائيل التراجع عن الاعتراف، وخصوصاً أنها لم تكن في الماضي تتحدّث عن أرقام. لعلّها أرادت لأسباب سياسية الزعم أمام جمهورها أنها قضت على القوّة العسكريّة لـ«حماس».
أصبح لدينا سرديّات متناقضة في الإعلام. الإعلام الغربي التقليدي (وتوابعه مِن الإعلام الصهيوني العربي وهناك تنسيقٌ أكيد بين الأنظمة الخليجيّة التي تسيطر على الإعلام العربي وبين دول الغرب الصهيونيّة مِن أجل ضخّ سرديّة صهيونيّة واحدة. ليس مِن المبالغة القول إنّ محطّة «العربيّة» و«سكاي نيوز» و«النهار» و«نداء الوطن» و«إل.بي.سي» و«إم.تي.في» كانوا أكثر تعصّباً للبروباغاندا الإسرائيليّة مِن الصحف الصهيونية هنا). لا تزال الصهيونية العالميّة تسيطر على سرديّة الإعلام السائد: ندر أنْ نشرت «وول ستريت جورنال» أو «نيويورك تايمز» أو «واشنطن بوست» سرديّة تَحيد عن الخطّ الإسرائيلي. وقد يكون إقصاء رئيسة تحرير «واشنطن بوست» أخيراً مرتبطاً بنشر الصحيفة لمقالةٍ عن الضغط الذي مارَسه أثرياء اليهود على الجامعات والشرطة في نيويورك لِقمع التحرّكات المناصِرة لفلسطين. مقابل هذا الإعلام، هناك الإعلام الجديد (وتعريف الإعلام الجديد يختلف بين الشرق والغرب. في الغرب، يشير إلى تعبيرٍ مغايِر للإعلام السائد عن الإعلام التقليدي عبر نشر صورٍ وأخبار قلّما ترِد في الإعلام التقليدي. في الشرق، لا يعني الإعلام «الجديد» إلا وسائل إعلام جديدة انطلقت بتمويل حكومات «الأطلسي» وسوروس مِن أجل ضخّ أجندة «الناتو» بين العرب). الكونغرس الأميركي يحارب «تيك توك» ويسعى إلى حظرها لأنّ مضمونها (بفعل إرادة المشاركين الحرّة) يكون أكثر انحيازاً إلى الحقّ الفلسطيني.
ابتذلت إسرائيل تُهمةَ معاداة الساميّة وسيّستها، ما أفقدها عبر السنوات العقصة والأذى اللذين كانت تلحقهما بالهدف. في الماضي، كان إطلاق التُهمة ــ مجرّد الإطلاق ــ ضدّ شخصٍ أو جمعيّة يكفي لنبذ الهدف وإقصائه عن المجتمع المهذّب. شعرت الصهيونيّة أنّ النقد ضدّ إسرائيل يتزايد، وأنّ تصنيف الأبرثايد بات معتمَداً حتّى مِن قِبَل جمعيّات حقوق إنسان غربيّة كانت في الماضي خيرَ عونٍ لإسرائيل ومصالحها. والوعي الطلّابي يزداد في كلّ جامعات الغرب، النخبويّة منها والشعبيّة، ما أفقد قادةَ اللوبي الإسرائيلي صوابَهم. أصبحت الحاجة إلى مرادف التخوين العالمي في الغرب: تُهمة معاداة الساميّة تخرِج المرء عن المجتمع ومِن الوظيفة. كتب نورمان فينكلستين، وغيره، عن تسييس المحرقة واستخدام فظاعتها لتسويغ فظائع إسرائيل وإيجاد أعذار لوحشيّتها. ضاق الكثير في الغرب ذرعاً من أساليب إسرائيل الزجريّة والقمعيّة. إنّ فقدان إطلاق تُهمة معاداة الساميّة لفعاليّتها هو مِن جوانب إضعاف عمل المنظمّات الصهيونيّة العالميّة. ليس مِن وسائل أخرى جديدة لتفيد العمل الصهيوني غير التشهير وتشويه السمعة. هذه مِن سمات حقبةٍ جديدة مِن العمل الصهيوني في الغرب (لا تكترث الصهيونيّة العالميّة لأي مِن دول العالم النامي. الغرب ــ لأسباب عنصريّة عرقيّة وبسبب النفوذ الأميركي الهائل ــ هو الذي يعني قيادة إسرائيل، وهذه مِن إرث رؤية ديفيد بن غوريون).
أمّا عن تأثير كلّ ما يحدث على السياسة في العالم العربي، فهذا يحتاج إلى مسافةٍ زمنيّة لم تتوافر بعد، وخصوصاً أنّ الحرب لا تزال جارية. لكنّ الحرب لا تسير بما يلائم مصلحة إسرائيل، وهذا يعزّز مِن مأزق الأنظمة العربيّة التي عوَّلت على نصرٍ سريع لإسرائيل، وعلى قضاءٍ مبرم على حركة «حماس». نشاط محطّة «العربيّة» في الآونة الأخيرة يحاول أن ينقذ إسرائيل مِن مأزقها عبر اختلاق سرديّة متخيّلة: إعلام الإمارات والسعوديّة يريد تصديق أكذوبة أنّ شعب فلسطين تحوّل ضدّ «حماس»، وأنه بات في مقلبٍ سياسي آخر. والسياسة في العالم العربي ستتأثّر بصورةٍ عامّة بما يأتي:
أوّلاً، هناك قيادة سياسيّة وعسكريّة جديدة للحركة الوطنيّة الفلسطينيّة. السنوار هو عنوان المرحلة، وهو الذي غيّر العالم وأعاد تشكيل تركيبته، سيؤثّر على إعادة تركيب منظومة السياسة في العالم العربي برمّته. مرحلة «الكرامة» لا تُقاس بتأثير مرحلة «طوفان الأقصى» ورجال هذه المرحلة غير رجال المرحلة الغابرة التي انتهت بالترحيل المُذلّ لمقاتلي المقاومة الفلسطينيّة عن بيروت في زوارق وبحراسة عدوّة.
ثانياً، انتهت منظّمة التحرير وماتت إلى الأبد. تحاول أصواتٌ مشبوهة الدعوة إلى الوحدة الفلسطينيّة أو إلى ضمّ «حماس» إلى منظمة التحرير. هذا لم يعد ممكناً. «حماس» هي اليوم منظّمة التحرير الفلسطينية وحركة «فتح» هي حركة القضاء على القضيّة الفلسطينيّة. ليس مِن حقّ الحركة التي تقود الشعب الفلسطيني إلى هزائم متلاحقة أنْ تستمرّ في الواجهة. سيكون هناك منظّمة جديدة تضمّ حركات المقاومة وتنطق باسم الحقّ الفلسطيني. تستطيع أنْ تبقى حركة «فتح» كرمزٍ للهزيمة والخيانة والعمالة لمصلحة جيش العدوّ.
ثالثاً، لقد فُضِح دور الأنظمة العربيّة. انتقلت مِن مرحلة الصمت إلى مرحلة المشاركة الفعليّة في الدفاع عن إسرائيل بأوامر أميركيّة. «وول ستريت جورنال» ذكرت دولَ السعوديّة والإمارات والأردن مِن ضمن المجموعة العربيّة التي دافعت عن إسرائيل في ليلة القصف الإيراني لإسرائيل.
رابعاً، تمّ الإطباق مِن قِبَل أميركا على المنظومة العربيّة الرسميّة وقضت على الفروقات (وإنْ كانت ضئيلة) بين الأنظمة العربيّة المختلفة.
خامساً، قصّةُ أنّ إيران هي الدولة الوحيدة في كل العالم التي تجرؤ على مدّ المقاومات ضدّ إسرائيل ــ بصرف النظر إنْ كانت شيعيّة أم سنيّة أم يساريّة علمانيّة ــ يفسّر كلّ أسباب النقمة والعداء ضدّ إيران في الدول العربيّة وفي دول الغرب. حرمان الشعب الفلسطيني مِن حقّه في المقاومة هو الهدف. وهذا مشروع اللوبيات الإسرائيليّة في العالم: ضرورة منع الشعب الفلسطيني مِن حقوقه السياسيّة والإنسانيّة واعتناق عقيدة جو بايدن ــ جاريد كوشنير والتي تجعل مِن الاقتصاد مفتاحَ الحلّ على افتراض أنّ الشعب الفلسطيني منذ بلفور لا يستحقّ حقوقاً سياسيّة البتّة (وعد بلفور تحدّث فقط عن حقوقٍ دينية ومدنيّة لـ«المجموعات غير اليهوديّة» في فلسطين. وحتّى تحقيق الحقوق المدنيّة والدينيّة مستحيلٌ في دولةٍ يهودية لا تعترف بحقّ تقرير المصير إلا على أسس تفوّق العنصر اليهودي على غيره).
سادساً، لم يصل مستوى أداء الأنظمة العربيّة إلى هذا الدرك مِن قَبل. هذا أدنى مستوى للأنظمة منذ النكبة. كلّ الأنظمة سواء في قبولها بمبادرة الاستجداء العربيّة للتطبيع مع إسرائيل. النظام السوري يُسهِّل عمليّات المقاومة وإمداد السلاح، لكنه يقف عاجزاً أمام مئات الغارات الإسرائيليّة على مواقعه، والنظام لا يعِد بإعداد خطّة لتحرير الجولان المحتلّ. لكنّ باقي الأنظمة متّفقة على مراضاة واشنطن والإصرار مهما ارتكبت إسرائيل مِن جرائم على طلب «حلّ الدولتَين»، رغم رفض كلّ القوى والأحزاب الإسرائيليّة لهذا «الحلّ». ليس هناك مِن فروقاتٍ بين الأنظمة، والنظام الجزائري ـــ بدلاً مِن مدّ المقاومة بالسلاح والعتاد ــ عبّر عن تضامنه مع فلسطين قبل أيّام عبر منح تبرّع مالي لسلطة العمالة والفساد والسرقة في رام الله. الجزائر وكل الدول العربيّة لم تنضمّ إلى دعوة جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدوليّة. في زمنٍ آخر، كانت كلّ الدول العربيّة ستبادر إلى تقديم الدعوى قَبل جنوب أفريقيا. هذا زمنٌ آخر لأنّ اللوبي الاسرائيلي يسيطر فعلاً على تحديد سقوف الدعم العربي اللفظي لقضيّة فلسطين. أميركا تسمح للأنظمة العربيّة بسقفٍ لفظي متدنٍّ للتعبير عن تأييد قضيّة فلسطين، وشاهدنا بأمّ العين ما تسمح به أميركا: الدعوات الخجولة إلى وقف النار مِن دون التهديد بعقوبات أو تغيير سياسات والدعوة المستمرّة إلى «حلّ الدولتَين». الدول العربيّة باتت بعد 11 أيلول أكثر امتثالاً للأوامر الأميركيّة. 
سابعاً، الهوّة بين الأنظمة والحكّام نغمة قديمة في الثقافة السياسيّة في العالم العربي وفي الدراسات الأكاديميّة عن المنطقة. الحكّام ينادون بالتطبيع مع إسرائيل وليس هناك مِن قاعدة جماهيريّة لهذا المطلب رغم إنفاق المال السخي لتغيير أمزجة الرأي العام العربي. حتّى الدول المُطبِّعة تجد نفسها محرجة، والشعب في مصر والأردن لا يزال رافضاً تقبّل فكرة تواجد الإسرائيليّين في بلادهم. أميركا تضغط على الحكومات مِن أجل إحداث تطبيعٍ شعبي، لكنّ استقرار النظام يبقى أهمّ مِن أوامر المصلحة الأميركيّة ــ الإسرائيليّة.
ثامناً، فقدت اتفاقات أبراهام مصداقيّتها وأهميّتها. الاتفاقات افترضت بطلان أهمّية ومركزيّة القضيّة. نظريّة جاريد كوشنير التي انطلقت مِن اللوبي الإسرائيلي طالبت بضرورة التركيز على عقد اتفاقاياتٍ منفردة بين الأنظمة العربيّة وبين إسرائيل. الحرب هذه وردود الفعل العالميّة، ورغم ضعف ردّة الفعل الجماهيريّة الشعبيّة، أعادت النظر بفرضيّات أبراهام. طبعاً، إدارة بايدن لا تزال تنظر إلى المنطقة مِن منظار الاتفاقيّات المنفردة، وخصوصاً الاتفاق بين السعودية وإسرائيل. والذي عرقل التوصّل إلى اتفاق بين المملكة وإسرائيل لم تكن المملكة (التي واظبت أثناء حرب الإبادة على التفاوض السرّي مع إسرائيل، وعلى التأكيد أنها مستعدّة كما كانت للتطبيع والسلام مع إسرائيل): الذي عرقل الاتفاق أثناء الحرب هو إسرائيل نفسها، التي لا ترى أنّ تطبيع المملكة يستحقّ أي تنازل مِن قبلها، وخصوصاً وعوداً بتحقيق دولة وإن لم يكن فورياً. مبدأ الدويلة الفلسطينيّة مرفوضٌ مِن كلّ أطراف السلطة في إسرائيل. وقد تراجعت السعودية عن مطالبها فهي بدأت بالقول إنها ستطبّع مقابل تحقيق دويلةٍ فلسطينيّة، ثمّ عاد محمد بن سلمان وقال إنّ تحسين مستوى معيشة الفلسطينيّين يكفيه كشرطٍ للتطبيع. لكنّ هذا الانحدار لم يعد ملائماً بعد «الطوفان»، فعادت السعودية وقالت إنها تكتفي بجدولٍ زمني غير فوري لتحقيق الدويلة، وهذا أيضاً كان مرفوضاً مِن قِبَل إسرائيل. وإدارة بايدن باتت تكتفي بهدف اتفاقٍ أمني مع السعوديّة مِن دون ربطٍ مع قضيّة فلسطين. تريد نصراً ديبلوماسيّاً قَبل الانتخابات.
تاسعاً، سيكون هناك إعادة تشكيل العلاقة الشعبية والرسميّة مع الغرب وستصعد تيّاراتٌ وأحزاب تطالب بذلك بصرف النظر عن موقف الأنظمة.
عاشراً، ستكون كلفة ولاء المثقّفين العرب لأنظمة الخليج أعلى مِن قَبل.

* كاتب عربي - حسابه على «اكس»
asadabukhalil@