تكرّست، على مدى سنوات، حجّة أنّ الشعوب العربية ليست لديها القدرة على إحداث التغيير، أو التأثير في الواقع السياسي في المنطقة، مع التأكيد على أنّ غالبية الناس لا تتّفق مع سياسات حكّامها. وقد ثبّتت سنوات حراك ما يسمّى «الربيع العربي» هذه الفكرة، خصوصاً مع تدهور الأوضاع الاقتصادية في بلدان الطوق المحيطة بفلسطين، وتدهور الأوضاع الاجتماعية وفسحة التعبير -الضيقة- التي كانت متاحة نسبياً في بلدانٍ مثْل مصر. انتشرت الحجّة ذاتها بشكلٍ واسع على مواقع التواصل الاجتماعي، التي تحوّلت إلى مساحات إبراء ذمّة مبتذلة، منذ بداية حرب الإبادة على غزّة. ومع هذه الحجّة – الضعيفة والبائسة – تترافق شحنات غضب مؤقّتة موجّهة ضدّ الحكومات الغربية ومؤسّسات إعلامها وتعليمها، واتّهام لها بالنفاق والعنصرية والتخاذل والمكر، من دون الإشارة إلى دور الحكومات العربية، ومؤسّسات الإعلام التي تجاوزت في السوء والبروباغاندا إعلام الكيان المحتلّ. بل أخذت بعضُ هذه المؤسّسات على عاتقها تسويق دعايات حكومة الكيان، الدور الذي باتت بعض الصحف الإسرائيلية ترفضه. ففي الوقت الذي تنتقد الصحافة الإسرائيلية مسار حكومتها في الحرب، وتكشف كذب مسؤوليها عليهم، نرى -مثلاً- قناة «العربية» تعطي المتحدّث باسم جيش الكيان مساحته في بثّ الأكاذيب والترّهات بلا مساءلةٍ أو تفنيد. بالرغم من تقارير منظّمات حقوق الإنسان ومؤسّسات الأمم المتحدة التي ترتعش لها الأبدان، والتي لا تصوّر واقع الدمار والمأساة لمنع الكيان دخول المؤسّسات والمحقّقين إلى القطاع، ما زال كتّاب صحيفة «الشرق الأوسط» مشغولين بتطرّف الحركات الإسلامية، وخطر إيران على المنطقة، ويوم ما بعد الحرب، إذ صدق أبو الطيب المتنبي بقوله: «ومن البليَّةِ عذلُ من لا يرعوي ... عن غيِّهِ وخطابُ من لا يفهَمُ».
اتّخذت الشعوب العربية المقاطعة كوسيلة للتعبير عن حدود إمكاناتها وقدرتها في مناصرة فلسطين. ووجّهت حملات ممنهجة ضدّ شركات عالمية كان لها تأثير ملحوظ ومبارك. لكنّ السؤال الذي يُطرح بعد ثمانية أشهر من الحرب: ألم يحن وقت مقاطعة دول التطبيع العربية، ومهرجاناتها وفعالياتها؟ ألم يحن وقت العودة إلى واقع الحال بعد هذا الانفصام المعيب؟ سؤالي هنا للشعوب والشرفاء، لا لحفنة المثقفين والكتّاب الذين جلّ أمانيهم أن يستضافوا في ندوة شعرية، أو يستكتبوا في صحيفة تدفع بالدولار، أو يدعوا لحضور مهرجان أو برنامج تلفزيوني، أو ترشّح رواياتهم وكتبهم إلى جوائز ومنح تحت رعاية سادة الحوار والاعتدال والتطبيع.
ولسكّان الدول المطبّعة، علناً أو خفيّةً، ماذا عن الإضراب عن الطعام نصرةً لغزة؟ شهراً؟ أسبوعاً؟ أو ربما يوماً؟ فعل أي شيء بدون مواجهة السلطات؟ فعل لا يستدعي الاعتقال وخسارة لقمة العيش. فعلٌ مشتركٌ جماعيٌّ واحدٌ على الأقل، ضمن نطاق معادلة الممكن التي رسمتها هذه الشعوب لنفسها.
مع تأييدي وإعجابي الخاصّ بمقالة أسعد أبو خليل، أرى أنها افتقدت إلى تحليل الحدود التي وضعها الناس لأنفسهم، كالمقاطعة مثلاً، وغياب الفعل الممكن ضمن مجال هذه الحدود


لم تعد كتابة «لا تعتد على المشهد» أو «All eyes on Gaza» تعني أي شيء عربياً. المشكلة الحقيقية هي الاعتياد على كتابة مثل هذه الشعارات يومياً من دون القيام بعمل ملموس في الشارع. بل وصل الحال باتّهام الشعوب الغربية بالتخاذل والانحلال الأخلاقي لأنّها لا تريد تحمّل تكلفة التغيير، رغم أن المئات خسروا أعمالهم، ومئات غيرهم يُعتقلون ويُغرّمون بشكل شبه أسبوعي لتضامنهم مع غزة. هذا بعيداً عن مئات الآلاف الذين يشاركون في التظاهرات، ويتبرّعون مادّياً لفلسطين ومؤسّسات الدعم الإنسانية. ولسخرية القدر، إنّ مَن يهاجم الشعوب الغربية، خصوصاً مثقفي الندوات والصحف ومؤسّسات البحوث (مع كامل التحفّظ على مفردة بحوث) وثوار منصّة «إكس» ومَن يضعون المطرقة والمنجل بجانب أسمائهم المستعارة من دون قراءة صفحتين من كتاب رأس المال، لا يريدون تحمّل أي تكلفة، أو خسارة أي امتياز لديهم. اكتفى بعضهم بكتابة مرثيات ركيكة، أو، في أفضل الأحوال إعادة نشر قصائد مظفر النواب (من دون الإشارة إلى المعزى والغنم).
كتب أسعد أبو خليل قبل أسبوع مقالة بعنوان «أسباب الاستكانة الشعبيّة العربيّة بالنسبة إلى حرب الإبادة في غزة» في «الأخبار»، محلّلاً أسباب جمود الشارع العربي، وخوف الناس من الانتفاض على واقعهم والتعبير عن مواقفهم ومشاعرهم الحقيقية وارتباطهم بفلسطين. ذكر أبو خليل ثمانية أسباب تحجم حراك الشعوب ونزولها إلى الشوارع من أجل فلسطين، تتضمّن غياب القيادة الملهمة والتنظيمات السياسية، والتدجين الممنهج، والدعم الأميركي للحكومات ضدّ الشعوب، وآثار عقدين من خيبة الناس المتكرّرة وفقدانهم للأمل، وتغيّر علاقات قوى السياسة والاقتصاد التي ثبّتت وجذّرت بنى الحكومات القائمة؛ وبالتالي تقاطع مصالح الناس المادّية واستقرارها مع استقرار أوضاع هذه الحكومات.
أعتقد أنّ أهمّ ما أشارت له المقالة هو تحوّل دور الحكومات في تجييش الشعوب وتحريضها، وغياب الثقة ما بين القادة والشعوب. ومع تأييدي وإعجابي الخاصّ بمقالة أسعد أبو خليل، أرى أنها افتقدت إلى تحليل الحدود التي وضعها الناس لأنفسهم، كالمقاطعة مثلاً، وغياب الفعل الممكن ضمن مجال هذه الحدود. صحيحٌ أنّ القمع اشتدّ، وأنّ هامش التنفيس عن الذات قد ضاق كثيراً، وأنّ التنظيم الجماعي ممنوع، لكنّ هناك هامشاً يمكن من خلاله الحركة والتأثير، شرطَ التحرّك بشكلٍ جماعي وبتوقيت واحد. فمقاطعة الشركات العالمية دليل على وجود هذا الهامش المؤثّر، والذي يمكن أن يكون ورقة ضغط كبرى على الحكومات العربية نفسها إذا تحوّل إلى حملة تجيّش إعلامياً. ما إنْ ينعكس دور المقاطعة من التركيز على الشركات الأجنبية إلى مقاطعة السياحة والمهرجانات والندوات والفعاليات بمختلف أشكالها، ستكون معادلة الحسابات الاقتصادية مختلفة.
إضافة إلى ذلك، لم يتطرّق أبو خليل إلى الفوارق الاجتماعية، واختلاف نطاق الهوامش ما بين الشعوب، أي قدرة الناس على التظاهر والتعبير والاعتراض والنقد. فهامش شعبنا في الكويت يختلف عن هامش أحبائنا العمانيين. كما أنّ هامش أعزّائنا العراقيين يختلف عن هامش أهلنا في السعودية. مثلاً، إذا كان دور الذباب الإلكتروني فاعلاً في بعض الدول، يمكن لأهلنا في دول أخرى أن تواجه تنمّر هذا الذباب وتقوّض أكاذيبه وحملات كيّ الوعي التي يديرها بشكلٍ ممنهج ومدعوم. كما يمكن لبعض الشعوب النزول إلى الشارع بأعداد كبيرة من دون تصادم مباشر مع أجهزة الدولة الأمنية.
وبعيداً عمّا تفتقد له مقالة أبو خليل، مع اتّفاقي معها، فالمقاطعة والإضراب عن الطعام ممكنان عند الجميع بلا استثناء. فكل ما يتطلّبه الأمر هو تحديد يوم في التقويم السنوي وإعلان المقاطعة والإضراب العامّ. صحيحٌ أنّ حكم السجن على تغريدة يصل إلى خمسة عشر عاماً في بعض البلدان، لكن عدم الذهاب إلى المطاعم، والصيام، والإضراب، وعدم السفر لرؤية أطول برج لن تضرّ فاعلها بشيء.
ولمَن سيحاجّ بأنّ المقاطعة والإضراب سيضرّان أصحاب الأعمال المحلّيين والعمّال والاقتصاد: هل التفرّج على إبادة أهلنا في فلسطين أقلّ ضرراً لديك؟ بعيداً عن الإجابة...المجد للرجال الرجال، وأهاليهم الصامدين، وحدهم.

* كاتب عربي