كتب أستاذ الدراسات العربية والهيلينية في جامعة «ييل»، ديميتري غوتاس، العام 1998 أنه خلال أكثر من 200 عام (750م – 950م) على أقل تقدير تُرجمت في بغداد الأغلبية الساحقة من الأعمال العلمية والفلسفية للعصر الكلاسيكي (500ق. م –300م). هنا إذا أردتَ أن تدرك حجم هذا الإنجاز التاريخي، فما عليك إلا أن تعرف أن الأعمال الكاملة لجالينوس، والتعليقات اليونانية على فلسفة أرسطو (طبعة أكاديمية برلين)، التي كان مجموعها حوالى 74 مجلّداً ضخماً ما هي إلا جزء صغير من هذا التراث المترجم، ما يفترض به أن يجعل العربية بحق اللغة الثانية في الأهمية في حقل الدراسات الكلاسيكية للحضارة الغريكو-رومانية بعد اليونانية مباشرة، ومتفوّقة على اللاتينية، لكن مع الأسف هذا لم يحدث، لكون هذا الحقل كما أظهر مارتن برنال شديد النخبوية والمحافظة والعنصرية أيضاً (Gutas: 1998, P1,2 &5).كما هو معروف، سيكون لهذا التراث المترجم دور محوري في ظهور الحضارة العربية الإسلامية، لكن هناك أسئلة تُطرح هنا: ما الذي جذب أو دفع العرب المسلمين ـــ وهم من ثقافة توصف بالصحراوية ـــ إلى ترجمة هذ التراث العلمي الصعب؟ ولماذا لم تتحقق نهضة كهذه للفرس الساسانيين (224–651م) قبلهم؟ وهل حصلت ولم تصلنا أخبارها؟ سيعتمد هذا المقال على أعمال الباحث اللبناني اللامع من جامعة كولومبيا والمتخصص بتاريخ العلوم الإسلامية جورج صليبا، لمحاولة الإجابة عن هذه التساؤلات. لأنه، في رأيي المتواضع، لم يقدم باحث عربي مساهمة نقدية لفهم الحضارة العربية الإسلامية وعلى مدى العقدين أو الثلاثة الأخيرة، كما فعل صليبا رغم قلة كتاباته.

العرب خلفاء الإسكندر؟
يتّفق صليبا ضمنياً مع اعتقاد غوتاس بأن الجواب يكمن في الإنجاز الأهم للفتوحات العربية، وهو حقيقة إحياء إمبراطورية الإسكندر الأكبر (الممتدة من مصر إلى كشمير)، وجمع ثقافات وشعوب متنوّعة تحت مظلّة واحدة، وهو الأمر الذي عجز الساسانيون والبارثيون والرومان والبيزنطيون عن تحقيقه. وهذا قد منح العرب فرصة ذهبية لاستيعاب أفكار وعلوم هذه الأمم ومزجها بعضها ببعض؛ فكانت ثمرتها الحضارة العربية الإسلامية. لكن صليبا يجادل إنه وان كان هذا صحيحا، فهو ليس كافياً كتفسير، ويوضح أن الاحتكاك الثقافي والاختلاط الاجتماعي وحده لا يصنع ثورة علمية وحضارة مركبة، لأن العلوم لا تترجم ولا تنتقل إلا إذا كان هناك حاجة داخلية لدى المجتمع العربي الناشئ إلى بذل هذه الجهود والاستثمار في نقل العلوم. فما كانت حاجة العرب إلى العلوم، وكيف تولدت؟
سنعرض في هذا الجزء مسألتين: الأولى هي السردية التاريخية الشائعة عن حضارتنا، التي تسرّبت إلى الثقافة الشعبية في القرن الأخير ويتناقلها عادة مثقفو «جيل الهزيمة» وجلّادو الذات «النقديون»، الذين أظهروا استشراقاً غير مسبوق تجاه ذاتهم العربية. أما الثانية، فهي تتطرق إلى حالة العلوم في المنطقة قبل مجيء الإسلام.

الشائع عن تاريخنا
من المقولات الشائعة أن أغلب الفاتحين العرب كانوا أساساً أمة عشائرية بدوية هامشية، بعقيدة دينية بسيطة، ستستعير معظم تصوراتها من محيطها المشرقي الأعرق. فما الذي كان سيجذب أبناء الأعراب والقرّاء (حفظة القرآن) والتجّار إلى هذه العلوم الفلسفية والطبيعية؟ هنا يظهر ابن خلدون لينّبهنا أن الأعراب أبعد الناس عن الصناعة والعلوم التي فهمها المستشرقون الأوائل على أنها تعني العرب جميعاً، ليصبح ابن خلدون من آباء المقولات الاستشراقية وصديق المستشرقين الأثير (مقابلة لجورج صليبا مع صفحة ضفة ثالثة بتاريخ 12/10/2016). أشاع بعض المستشرقين أجواء «تنافسية» قومية ودينية لا معنى لها بين أبناء الحضارة العربية الإسلامية، وهو الفخ الذي وقع فيه العديد من أبناء مجتمعاتنا، وتحمسوا له بسباق القوميات نحو ادّعاء المجد.
تفترض فرضية الاختلاط أو التماس الحضاري بين العرب والفرس والسريان والروم أنه كانت هناك شعوب أرقى حضارياً من شعوب أخرى، لأن لها تقاليد علمية وبحثية أعرق. هنا يظهر العرب كشعب بدويّ محارب ولكنّه قليل الإبداع، تتلمذ على يد المترجمين السريان، بعلوم اليونان، وبزّهم في النهاية الإيرانيون لأن العرب «أعراب». في هذه الرواية، تكون المصادفة التاريخية هي ما مكّن العرب من بناء حضارة علمية متطورة وذلك بفعل الفتح والغزو، بينما كان السريان والفرس أقواماً لديها فضول علمي و«رسالة حضارية» وهي من ثقافات ترعى العلوم وتقدّرها لذاتها. فقاموا على ترجمة التراث العلمي اليوناني العظيم، الذي تناقلوه أباً عن جد و«حفظوه» حتى وصول العرب. بمعنى: لو لم يظهر العرب، لكانت «الحضارة» قد استمرت على أيّ حال، ولعشنا عصراً ذهبياً يونانياً أو سريانياً آخر!
في كل الأحوال، لحق العرب بالركب العلمي أخيراً بعد أن «تتلمذوا» على يد السريان والفرس، وربما الروم، لكن العرب ظلوا، وفق هذا التأريخ، «تلامذة سيئين» بمعنى ما، مقارنة بالأعاجم الذين جاء أغلب العلماء من ملّتهم، كما يذكّرنا مجدداً ابن خلدون. وهو قد فسّر ذلك، وما زال البعض على مذهبه، بأن العرب أمة بدوية كالأتراك! وكأن من كانت له أصول بدوية سيظلّ يحمل «عاهة عقلية متوارثة» لا شفاء منها!
لكنّ الحضارة العربية الإسلامية، ككلّ، بعربها وفرسها وسريانها، تظهر وفق الكثير من أصحاب هذه النظرة كمجرّد ناقلة للعلوم اليونانية وشارحة لها ومعلّقة عليها لا أكثر. فهم لم يضيفوا أموراً جوهرية أو يصحّحوا أخطاء شنيعة فيها إلا في ما ندر. على أي حال، تفترض هذه السردية أنه لو أتاحت الظروف التاريخية لليونانيين أو السريان أو غيرهم الاستمرار مزدهرين فترة أطول، فهم كانوا بالطبع سيصححون استنتاجاتهم العلمية غير الصحيحة، وسيتوصّلون إلى ما اكتشفه العرب المسلمون لاحقاً!
لكن، مجدداً وفق السردية الاستشراقية، هذا «الاستحواذ» العربي للحضارة، عبر الترجمة والنسخ، لم يعمّر طويلاً، إذ سيهزمه ويقضي عليه «الظلاميون المتدينون» أولاً (لأن الدين عدو العلم كما أقنعونا)، وذلك في القرن الـ12 الميلادي، خاصة بعد أن ألّف أبو حامد الغزالي (ت. 1111م) كتابه «تهافت الفلاسفة» ليشنّ هجوماً صاعقاً على الفلسفة والعقلانية. وأجهز المغول على ما تبقى من حضارتنا بسقوط بغداد على يد هولاكو عام 1258م!

في نقد التاريخ الشائع وفرضية التماس الحضاري
بالرغم من بدائية الملاحظات العلمية مثلا التي جاد بها عرب شبه الجزيرة قبل الإسلام (في الفلك والطب مثلاً)، والتي وصلتنا نقلاً عن المصادر العباسية، يمكن ملاحظة بعض تأثيرات العالم القديم عليهم. لأنه لم تكن تفصل هؤلاء العرب هوة جغرافية شاسعة عن جيرانهم البيزنطيين والساسانيين، وحتى الهنود قبل الإسلام.
العرب لم يكونوا جميعاً من البدو الرحل، فهناك مجتمع حضري في غرب الجزيرة العربي، كمكة ويثرب والطائف، وهناك اليمن والبحرين اللتان كانتا مضرب المثل في الثراء والرخاء المادي. في النهاية، لم تكن شبه الجزيرة معزولة بل متمركزة في قلب العالم القديم، وكان أبناؤها وإخوتهم من عرب العراق والشام يخدمون في جيوش الإمبراطوريات المجاورة ويتاجرون معهم، ويهاجرون ويؤسسون مجتمعات رعوية وزراعية مزدهرة فيها منذ زمن الآشوريين (Hoyland: 2001).
أشاع مستشرقون أجواء «تنافسية» قومية ودينية لا معنى لها بين أبناء الحضارة العربية الإسلامية


لكن لنَعُد أولاً إلى تقسيم غوتاس للتراث العلمي في المنطقة قبل الإسلام، فقد قسّمه إلى أربعة أجزاء: أولاً نصوص علوم العصر الكلاسيكي (500ق. م–300م)، وهي باليونانية بشكل شبه حصري، ومن جهة أخرى لدينا نصوص التراث الفارسي والهندي، ثم التراث السرياني، وأخيراً التراث اليوناني البيزنطي، وهي ظهرت في العصر الكلاسيكي المتأخّر أي بعد عام 300م تقريباً. نصوص علوم العصر الكلاسيكي هذه، أي ما قبل 300 ق م، أي الأقدم، هي العلوم الأكثر تطوّراً لأنها مثلت العصر الذهبي الغريكو-روماني، مثل أعمال أرسطو وإقليدس وجالينوس وأرخميدس... إلخ. هذه العلوم المتقدمة توقفت نصوصها عن التداول منذ بداية القرن الرابع ميلادي في المنطقة والبحر المتوسط.
ما كان متداولاً عند مجيء العرب المسلمين هو نصوص العلوم من الحقبة الكلاسيكية المتأخرة، أي التراثات الثلاثة الأخرى التي سبق ذكرها (البيزنطية، الفارسية-الهندية، والسريانية) التي كتب أغلبها في الحقبة الكلاسيكية المتأخرة (300م حتى 650/700م). علوم الحقبة الكلاسيكية المتأخرة كانت بأغلبها نسخاً مبسّطة، أو ما يمكن أن نسميه «علوماً شعبية» للأعمال اليونانية العظيمة من العصر الذهبي. وهذه التبسيطات قد انتشرت بشرط ألا تتعارض مع تصورات الكنيسة يومها. كانت هذه الأعمال تأخذ شكل أدب الموسوعات أي أنها لم تكن أعمالاً تخصصية عميقة، أو أخذت شكل الشروحات المدرسية الإبتدائية، والتعليقات التعليمية للطلبة غير المتخصصين. يبدو أن أغلب قرائها كانوا من طلبة الكنيسة وبعض الإداريين وهواة العلم والمعرفة (راجع الفصل الذي كتبه صليبا من كتاب A. Y. Al-Hassan: 2001 Vol 4).
ما يهمّنا هنا أن ندرك أن طريق العلوم العليا للعصر الذهبي اليوناني لم يكن ممهداً للعرب في القرنين السابع والثامن ميلادي، وجاهزاً للقطاف، بل على العكس تماماً؛ نظرية التماس الحضاري التبسيطية، أو التملك العربي للعلوم بفعل الغزو، لا تثبتها الوقائع.

التراث الفارسي المفقود
أما النصوص الساسانية الفارسية العلمية (حتى تلك التي تخص تاريخ ملوكهم)، فلم تصل إلينا مباشرة كمصادر أولية سوى بالنزر اليسير، إنما عرفناها عبر نسخها العربية (التي خرجت في القرنين الثامن والتاسع). ولكن ما يميز التراثين الفارسي والسرياني أنهما كانا معرّضين للتأثيرات الثقافية والعلمية الهندية (وربما الصينية). مع الأسف، لم تصلنا رواية «العلماء الساسانيين» فرساً وسرياناً وغيرهم عن أنفسهم وتاريخ علومهم. ما لدينا هو بعض الروايات في التراث العربي الإسلامي تظهر الساسانيين مدينين للتراث العلمي اليوناني الذي حصلوا عليه بفضل الأسرى الروم الذين صادف أن بعضهم كان علماء وأطباء، إضافة إلى هجرة علماء بيزنطة فراراً من القمع الكنسي (راجع حسن الخلف: الانعزاليون الجدد، السنة كتراث وتاريخ 22/5/2016). من الصعب الجزم بحقيقة هذه المزاعم في ظل غياب التراث الفارسي المكتوب. لكن ما قد يعزز فرضية تأخر الساسانيين عن الحضارة اليونانية غياب أي ذكر أيّ عالم أو كتاب من وزن عمالقة الحضارة اليونانية، لا في المصادر اليونانية ولا الأرمنية ولا السريانية المعاصرة لهم، فضلاً عن المصادر العربية الإسلامية. وهذا قد يغرينا بملاحظة أن الإيرانيين لم يحققوا نهضتهم العلمية الكبرى، ولم يبرز منهم عمالقة مثل ابن سينا والطوسي والنيسابوري والخفري... إلا في ظل الحضارة العربية الإسلامية.
على أي حال، يبدو أن علم الفلك العربي الإسلامي سيعتمد في تكوينه في البداية على التراث العلمي الساساني بتراثه الرافديني وروافده الهندية والخراسانية، وقبل أن يشرع علماء حضارتنا في طرح أسئلة أكثر عمقاً وجرأة، فطوروا علم الفلك بشكلٍ كبير عما تسلموه من أساتذتهم الساسانيين (راجع كتاب A. Y. Al-Hassan: 2001 Vol 4). لكن، لماذا تدهورت العلوم في المنطقة في القرن الثالث أصلاً؟ ولماذا لم ينجح الفرس في تطوير العلوم اليونانية وأخذ زمام المبادرة وإطلاق مشروع ترجمة لعلوم أكثر تقدّماً مما في حوزتهم كما فعل العرب فيما بعد؟ ما نعرفه أن الساسانيين استعانوا ببولص الفارسي لترجمة أعمال أرسطو في المنطق إلى الفارسية في القرن السادس الميلادي. بولص قدمته إلينا المصادر السريانية المتأخرة كابن للثقافة السريانية رغم كونه أحد رجال البلاط الفارسي، وهو ما قد يشير إلى أن العلوم الفلسفية اليونانية كانت غريبة على الثقافة الفارسية حتى القرن السادس الميلادي، وهي فترة متأخرة.

الكلاسيكية الجاهلية
يشرح بيتر براون (وهو أحد أكبر المختصين بالعصر الكلاسيكي المتأخر) كيف تحولت المنطقة من التراث الكلاسيكي الهيلنستي إلى ما عرف بثقافة «العصر الكلاسيكي المتأخر» (late antiquity) بعد القرن الثالث الميلادي. يذكر براون أن هذا التحول لم يكن سلبياً بالضرورة في تقاليد كالعمران واللباس والأفكار والعقائد والقوانين وتخطيط المدن، لكن ما هو واضح هو الردة الفكرية والعلمية الكبيرة مع تحولات القرن الرابع الميلادي ودخول المنطقة أزمتها الحضارية الطويلة. يذكرنا غوتاس هنا بتطور مهم هو صعود الكنيسة وتحالفها مع النخبة الرومانية الجديدة في بيزنطة، مقر الإمبراطورية الشرقي. يعزو غوتاس، ومن خلفه جل الأكاديميا الغربية، هزيمة العقلانية ودحر الروح العلمية وحرق المكتبات وإقفال المدارس العلمية وترويع العلماء والقضاء على الثقافة الوثنية إلى المسيحية البيزنطية.
لست أعترض هنا على هذا التفسير، لأنني لم أبحث هذه الظاهرة بجدية، ولكنني لا أكتمكم أنني بمرور الزمن أصبحت أشك في التفسيرات التي تقدمها الأيديولجيا (الليبرو-علمانية) عن تدهور الحضارات وسقوطها. ليس لأن هذه المؤسسات الدينية بريئة من دم العلم والفلاسفة، لكن من الواضح أن هناك الكثير من التبسيط في هذه التفسيرات الثقافوية. بالمناسبة، هناك كتاب صغير ومفيد لجورج طرابيشي حول مصير الفلسفة في بيزنطة هو «مصائر الفلسفة بين الشرق والغرب»، تمكن مراجعته في هذا الإطار.
ولكن لا بأس هنا من أن نعرض حالة التدهور العلمي في بيزنطة قبيل وصول العرب، لمناقشة التراث العلمي البيزنطي، حتى يعرف القارئ معنى الحجة التي نقدمها. ولنبدأ بكوزموس ايراتوسثينيس (ت 550م)، أحد المؤمنين بأن الأرض مسطحة، وأحد المرتدين على مبدأ كروية الأرض الذي ساد في العصر الذهبي اليوناني. لم يكن ايراتوسثينيس أحد كبار مثقفي عصره فحسب، بل كان المثقف الأكثر تمثيلاً لتقاليد بيزنطة ومدرسة أنطاكية تحديداً. جهل ايراتوسثينيس بفكرة كروية الأرض بسبب «التجهيل» القصدي الذي تسببت فيه الكنيسة، وقد يبدو طريفاً أن قورن بمصير عالمة الرياضيات والكاهنة المصرية الشهيرة هيباتيا التي أحرقتها غوغاء الكنيسة سنة 415م، فراحت ضحية صراعات القرن الخامس الميلادي (Saliba: 2007, p259). ظل هذا الإرهاب الكنسي البيزنطي قائماً حتى القرن التاسع الميلادي، حين عانى ليو الرياضي من ترويع طلابه له وترهيبه بمصير يشبه هيباتيا إن هو تمادى في طلب العلوم.
في الحقيقة لم يكن من السهل العثور على هذه النصوص العلمية «وتعاطي الفلسفة» (حتى جاء الفتح العربي وتقلّص نفوذ الكنيسة). وكنتيجة لذلك، صار البحث عن النصوص العلمية القديمة جهداً مكلفاً مادياً ومعنوياً، ولنا في ذلك مثال العالم والمترجم الكبير حنين بن إسحاق (ت 873) (وكان نسطورياً من الحيرة) الذي بذل جهداً خارقاً للحصول على أهم أعمال يونانيي العصر الذهبي سواء في بلادنا أو القسطنطينية، فكان يفشل في كثير من الأحيان أو يوفق بصعوبة شديدة (Saliba: 2007, p259).
من هنا، ربما، جاز وصف المرحلة الكلاسيكية المتأخرة «بـالجاهلية» التي أبدع كتاب وأدباء العصر العباسي في القرن التاسع والعاشر في وصفها حين تناولوا ظروف الجزيرة العربية قبل الإسلام. في تصوري أن هؤلاء الكتّاب لم يكتبوا عن أوضاع أزلية سحيقة، في حين أنهم على الأغلب كانوا يصفون أوضاع الجزيرة العربية في العصر-الأزمة، أي ما بعد القرن الثالث ميلادي. وظروف «الجاهلية» عمّت المنطقة برمتها، وصاحبها تفكك سياسي وتدهور اقتصادي مع استثناءات مثيرة سنتطرق إليها.

الجيوب الحضارية للحقبة الكلاسيكية المتأخرة
هناك فرضية أخرى مشهورة هي أن العلوم استمرت في المنطقة بفضل استمرار بضعة مراكز حضارية وسط «صحراء» الجاهلية التي فرضها انتصار الكنيسة. فجيوب مثل حرّان الوثنية (حافظت على عقيدتها الرافدينية القديمة)، والرها (شمال الرفدين) وأنطاكية (الساحل الشامي)، وقنسرين (قرب حلب)، (من الأراضي البيزنطية)، من ناحية، ونصيبين (شمال الرافدين)، وجنديسابور (في الأهواز من أراضي الساسانيين)، والري (شمال إيران)... كلها ظلت مراكز فكرية نشطة، أي إن هذه المراكز وأهلها السريان والفرس أنقذوا التراث اليوناني وسلموه للفاتحين العرب بعد القرن السابع ميلادي. ويمكن اعتبار دراسة جاك طانيوس عن دور مدرسة قنسرين السريانية بريف حلب في إحياء العلوم الفلسفية والكلامية والمنطق من قبل سكانها السريان، مثالاً لهذا التوجه (Tannous: 2018 & Tannous 2009).
لكن المتخصصين في تاريخ العلوم الإسلامية، كصليبا، يشيرون إلى أن هذه المراكز كحران وأنطاكية وجنديسابور لم تُخرج لنا أي عالم أو فيلسوف متمكّن من التعليق أو شرح أو الاستفادة من التراث العلمي اليوناني للحقبة الذهبية. هذا فضلاً عن عجز علماء هذه الحواضر عن إنتاج علوم بمستوى العلوم العالية لتلك الحقبة، مثلهم مثل معاصريهم الروم والفرس (Saliba: 2007, p6). يبدو أن غالبية ما أنتجته هذه المراكز لا تعدو كونها أعمالاً أولية لرسائل في الطب والفلك والرياضيات وبعض العلوم الأخرى مثل أعمال باولوس الإسكندري ورفاقه. عادة ما تُذكر هذه المراكز «كمدارس» في المصادر العربية المعاصرة، وما يصاحب ذلك من تبجيل وتفخيم من غير أن نفهم ماذا قدمت بالضبط. كان صليبا محقاً حين نبه إلى ضرورة التفريق بين مراكز حضارية تظل حاضرة في تاريخنا وذاكرتنا بفضل تراثها الفني والموسيقي والشعري والعقائدي والأدبي التي كانتها هذه المراكز، وبين كونها مراكز للعلوم الوضعية والفلسفة (Saliba: 2007, p258).

النهضة السريانية وقيمة علومها
على رغم ذلك، ولسبب غير مفهوم، تزايد اهتمام السريان بالتراث العقلي والعلمي اليوناني في القرنين السادس والسابع ميلادي. في «السادس»، كان المجتمع السرياني (وهي تسمية إشكالية سنعود إليها في مقالة منفصلة) ما زال منقسماً بين رعايا ساسانيين ورعايا بيزنطيين. ما يمكن ملاحظته أن الاهتمام الفارسي الساساني بترجمة جزء من الأعمال اليونانية بدأ في القرن نفسه أيضاً، أي إن النخبة الفارسية والسريانية أبدت ذات الاهتمام في ذلك الوقت لسبب غير واضح. أما القرن السابع، فقد توحّد فيه سريان المنطقة عبر تحوّلهم إلى شريحة (أهل ذمة) تحت حكم العرب المسلمين. والمثير أن هذا القرن أصبح «العصر الذهبي» للتراث السرياني العلمي والأدبي بكل صوره بما فيها الترجمات وفق جاك طانيوس (Tannous: 2010).

لا السريان ولا الفرس نقلوا التراث اليوناني المعقد للغتهم قبل العربية، والمشروع الأكبر للترجمة بدأ برعاية العرب


لصليبا بحث مهم في هذا الخصوص، قيّم فيه بعض علوم لأهم رموز التراث السرياني في القرنين السادس والسابع ميلادي، سنتطرق إلى اثنين منهم. الأول هو سرجيس الراسعيني (ت 536م) والثاني هو ساويرا سابوخت الذي يعرف أيضاً بسابوخت النصيبيني (ت 667م). لم يدرك الراسعيني الفتح الإسلامي، بينما أدركه وعاش بظله سابوخت. ينسب إلى سرجيس الراسعيني (ت 536م) أول ترجمة لأعمال أرسطو الفلسفية وجالينوس وآخرين من اليونانية إلى السريانية، الأب سرجيس كان سريانياً من مدينة رأس العين في شمال الرافدين (في القطر السوري)، لكنه تلقى علومه باليونانية في مدرسة الإسكندرية الشهيرة. وللأمانة هنا تعتبر ترجمات سرجيس غزيرة، ولربما كان أهم عالم سرياني في القرن السادس ميلادي، ونَسب إليه لاحقاً ألبير أبونا أعمالاً فلسفية.
لكن، مع الأسف، يرى صليبا أنه رغم الأوصاف المفخمة التي كيلت لسرجيس الراسعيني، فأعماله المهمة بعد تحليلها من المختصين أثبتت أن ملاحظاته وتعليقاته بدائية وتنقصها الدقة، ولا تمت بصلة إلى الأعمال المعقدة للتراث اليوناني في العصر الذهبي اليوناني، التي يستشهد بها من دون أن يثبت أنه فهم ما تقول (Saliba: 2001, p43). يضيف هنا الاختصاصي بالآداب السريانية دانييل كنغ أن علماء هذه الحقبة من سريان ويونان كانوا مشهورين بأسلوبهم الاستعراضي إلى حدّ ما، وما يسمى بالإنكليزية «name dropping»، أي طرح أسماء كبيرة لفلاسفة وعلماء من غير قراءة أعمالهم أو فهمها (Philip Wood (ed): 2013, p61).
سابوخت الذي كان الأكثر إثارة بين علماء السريان الذين تناولهم صليبا، بسبب كتاباته حول الاسطرلاب، ولد بنصيبين في شمال الرافدين أيضاً (تقسمها الحدود السورية التركية حالياً، كضحية أخرى لهزيمة المنطقة للحرب العالمية الأولى). ومن ناحية أخرى تشير أعمال سابوخت أنه قضى وقتاً لا بأس به بالرد على ثقافة عصره المتخلفة، التي تفشت فيها التصورات البابلية الشعبية الخرافية حول علاقة حركة الأجرام بقدر الإنسان، وتفسير كسوف القمر بصورة تنين سماوي يأكله! ما يعني أنه بقي يخوض معارك مواطنه العالم الرافديني برديصان قبل خمسة قرون، ولم يتح له التعمق في العلوم اليونانية العليا في المجال ككتاب المجسطي، بينما لا تجد في النصوص العلمية العربية الإسلامية المعقدة التي ظهرت لاحقاً مثل هذا المعارك، فقد اختفت أو تراجعت بقوة التفسيرات الطفولية البابلية وحلت محلها ثقافة أكثر منطقية (Saliba: 2001, p47)..

خاتمة
يستنتج هنا أنه لا السريان ولا الفرس نقلوا التراث اليوناني المعقد للغتهم أولاً قبل العربية، ولا بد أن المشروع الأكبر للترجمة بدأ برعاية الخلافة الإسلامية عقب الفتوحات. لكن يبقى موضوع التراث السرياني المكتوب موضوعاً شيقاً كحلقة مهمة في تاريخنا، لكننا لا يجب أن نسمح بتسرب نظريات تفوّق «عرقي» «وطائفي» مضمرة لأحداث لم تحدث. من المستغرب أنه لا يبدو أن الفرس الساسانيين أظهروا تفوقًا أو ندّيّة علمية مع خصومهم اليونانيين، ولكن ليس غريباً ألا ينجح السريان في التفوق علمياً على أسيادهم البيزنطيين، لأنه لم يمكن لأب سرياني فقير أو مهمّش في دير ناء أو ولاية بعيدة ـــ ويتبع على الأغلب عقيدة هرطوقية محاربة ومحاصرة بأجواء الإرهاب الأرثوذكسي آنذاك ـــ أن يبدع، بينما يلف الجهل، في الحقبة نفسها، أشقاءه الروم الأكثر قوة وثراءً في الإسكندرية وأنطاكيا والقسطنطينية؟
يعتقد غوتاس أن الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي وفّر عن غير قصد حريات جديدة وجدية للسريان، عبر توحيده الجغرافيا السياسية لمجتمعهم وإلغائه سطوة الكنيسة الرسمية عليهم، فكان القرن السابع سريانياً بامتياز نسبة إلى كمية الآداب التي أُنتجت خلاله. ويذهب غوتاس إلى أبعد من ذلك بخصوص ثقافة النخبة البيزنطية وطبيعتها، مؤكداً أن الثقافة العلمية ما كانت لتتقدم في منطقتنا لولا الفتح العربي الإسلامي، لأن الدوغما المسيحية الأرثوذكسية الحاكمة كانت قد انقلبت على التراث الوثني الهيليني بفلسفته وعلومه وشخصياته ومؤسساته، وخاضت معارك عنيفة للقضاء عليه، فظلت تشعر بمزيج من القلق من تراث هؤلاء «الكفرة» والاحتقار له، بوصفه تراث العدو المهزوم. لذا، كان لا بد من ثورة، أو قوة جديدة، تطيح بعرش النخبة الأرثوذكسية الرومية، وصعود نخبة جديدة لا تملك هذه الحساسيات والفوقية الأرثوذكسية تجاه التراث الهيليني الذي دحرته ودمرته قبل ثلاثة قرون. فكان العباسيون العرب، ونخبتهم «الخراسانية» هم هذه القوة التي تأسست في أرض ساسانية «معادية» للروم، وغريبة تماماً عن النفوذ البيزنطي الأرثوذكسي، هي بغداد (Gutas:1998, p18-19). فهل يمكن أن نستنتج أن الحياة العلمية قد «تحررت» من هيمنة الدوغما المسيحية لمصلحة دوغما إسلامية أكثر تحرراً وكانت تعيش مرحلة طفولتها ولم تتكلس بعد لتقف عائقاً أمام تطور العلم، أم أن القصة أعقد من مسألة تبدل عقائد ومدن ونخب وفرس وعرب؟

* كاتب عراقي