أما الكوميديا السوداء، فتنحو نحو شخصيات أخرى في «فوضى»، وخاصة أن خلاف «زيدان» مع أخيه يقع بسبب عشقهما لامرأة واحدة هي «فتحية» (رشا بلال) التي أحبّها «فارس» وتزوجها سراً، فحملت منه، ليتزامن اعتقاله مع سقوط قذيفة على بيتها وموت جميع أهلها. هنا، يستغلّ «زيدان» الحالة ويصارحها بحبّه ويتزوجها بعد أن يصطحبها إلى مكان إقامته في بيت عربي مشترك حيث كان يعيش مع أخيه. تبدو «فتحية» قاصراً عن أي فعل، حتى على مستوى التطور الدرامي، تبقى مسطّحة من دون ردود أفعال منطقية. نراها غارقة في دموعها كلّ الوقت، لا تنجز سوى العويل، ولا تبرع إلا في البكائيات. السؤال هنا لكاتبي النص: ترى، عندما يحاصر شخص مستضعف تقسو عليه الحياة وتعصره الظروف، ألا يفترض أن يكشّر عن أنيابه، أو يجرّب الدفاع عن نفسه ولو لمرّة، ربما يكون ذلك بمحاولة انتحار؟! لماذا لم تذهب «فتحية» أبعد من الصراخ أو الإغماء، وظلّت على هامش الحدث حتى نهاية الحلقة 14؟ يستطرد المسلسل بتنويع رشيق في ملفاته التي يفردها بتتال مشوّق، بدءاً من مقولته الآسرة: «المدن لا تشيخ بتعاقب العصور، المدن تشيخ بفعل الإهمال». يواكب تصعيده الدرامي المكتوب، تفكيك بصري جذاب لمفاصل الحي الذي يقوده «الكومجي» (أبو الخيل) وهو حارة كانت مرشحة لتتصدّر قائمة الأحياء الشامية الراقية، فصفعتها الحرب، وأحالتها ذروةً في العشوائية والفوضوية، مترنّحة بمشاكلها، ومتخمّرة من كثرة تعب سكّانها الطارئين بفعل التهجير. تتسلل كاميرا سمير حسين لتلتقط بحزم نبض الشارع، بطريقة موغلة بالحساسية المدهشة، وخاصة في المشاهد التأسيسية للحارة التي تدور فيها معظم الحكايات. تعرّج على شريحة مهمة من النساء السوريات: أمهات مطلّقات، أو مجهولات التسمية لأنهن ربما أرملات، أو زوجات مع وقف التنفيذ لا يعرفن شيئاً عن مصائر أزواجهن الذين ابتلعتهم الحرب.
معادلة ذكية لحسن سامي يوسف ونجيب نصير اللذين بات اسمهما ماركة مسجّلة في عالم التلفزيون
مثلاً، تؤدي النجمة ندين تحسين بيك دوراً فعالاً، تجيد الإمساك بمفاتيحه بحرفية. هي امرأة مطلقة تقع في غرام محام صاحب مبدأ (سلوم حداد) وتعاني من تحريض زوجها السابق (وائل أبو غزالة) لابنهما الوحيد كي ينتقم من أمه بسبب «علاقتها غير المشروعة»! أستاذة الرسم تمعن مطوّلاً في لوحات طلّابها، وتجرّب تحليل شخصياتهم من خلالها. على الرغم من الأداء الرفيع لسلّوم حداد، إلا أنه أخطأ في اختيار الشكل الخارجي للشخصية، إذ طرح نفسه في عمر أصغر من عمره الحقيقي و«ستايل» لا يجذب فعلياً امرأة مهتمة بالجمال ومتذوقة للفن. ربما لو ظلّ على هيئته الطبيعية بشيبه ووقاره، لظهر مقنعاً أكثر بالنسبة إلى المشاهد، وخصوصاً أن سكرتيرة زميلته (مرام كوجك) تذوب في حضوره قبل أن تستدرج ابنه (مجد فضة) إلى عوالمها في استطراد غير مبرر لمشاهد طويلة ومفتعلة. المحامي يفتح باباً على مصراعيه لملفات الفساد القضائي والشخصيات المافيوية المتحكمة بالبلاد مع طرح «كليشيه» لشخصية المسؤول الفاسد.
على الطرف المقابل، توغل جدلية العلاقة بين «وصال» (ديمة قندلفت) وابنتها «دانا» (هيا مرعشلي) في جزئية مفقودة من الدراما السورية. هذه المرّة، نحن أمام عائلة مهجّرة فقدت ربّانها ووصلت إلى مضارب «أبو الخيل»، لتستأجر قبواً متواضعاً. ثنائية أنثوية صارخة الجمال، تشكّل قوام عائلة لا تفقد أمل البحث عن الأب، وخاصة من الفتاة. تتصدى هذه العائلة لكواليس الحرب العبثية، ويتجلى ذلك في أحد المشاهد الساحرة. ترفع الأم صوت الموسيقى وتدعو ابنتها وصديقتها للرقص. بعد ثوان، تعلق عينا دانا بعيني والدها في صورته المعلّقة قبالتها، فتستحيل الفرحة العفوية غصّةً، يعقبها شلال دموع! تلتقي الأم (قندلفت) بـ«أبو الخيل» متكئة على تحررها وغنجها ولعبها الدقيق على مفردات المرأة في هذا العمر، فيقع الرجل الشهم في غرامها، وتبدأ ندّية العلاقة المغزولة على «نول» الكوميديا في تطعيم تهكمي لكارثية المعاناة المحيطة بكل شيء. في السياق ذاته، نحن أمام تفصيلة واقعية لامرأة أربعينية جميلة (إمارات رزق) وعلاقتها المصابة بعطب نتيجة إهمال زوجها (محمد قنوع) ثم رحلة البحث عن الخلاص في زوج سوري لاجئ في بلد أوروبي لابنة شقيقتها المراهقة. تدريجاً، تجد نفسها على أبواب علاقة «سكس فون» طرفها الثاني محتال يوهمها أنه يعيش في أوروبا (يوسف عسّاف)، فيما يمثّل أيمن رضا وزوجته سوسن ميخائيل الثنائي المهزوم على كلّ الجبهات.
«التعود على الهول هول أكبر» تحضر هذه المقولة للشاعر الراحل أنسي الحاج في العوالم الخفية لكلّ شخصيات «فوضى» التي فتكت بها الحرب. وعندما أرادت أن تعتصم عند استمرارية حياتها، وجدت نفسها تدفع ثمناً باهظاً بعد تعوّدها على الفوضى، وانحدارها نحو مزيد من التردي والكارثية والهول الأكبر!
* «فوضى»: 17:00 على «الجديد» ــ 00:10 على «سما» ـ 22:30 على «سوريا دراما»
«دير شبيغل» مهتمة بالمسلسل؟
مع بدء عرض مسلسل «فوضى»، حقق نسب مشاهدة مرتفعة في ألمانيا على اليوتيوب بسبب العدد الكبير للاجئين السوريين هناك. هكذا، قرر فريق صحافي من جريدة «دير شبيغل» الألمانية الشهيرة أن يسافر إلى سوريا ويجري حواراً مع صنّاع العمل. وبالفعل، وصل الفريق إلى بيروت ثم توجّه مع مرافقة اسمها روضة العيطة إلى الشام، والتقوا المخرج سمير حسين في مقرّ شركة «سما الفن الدولية»، فتمّ تداول الخبر على مواقع إلكترونية سورية. أمر أثار حفيظة أحد المواقع المشهود لها بعدم المهنية والتطرف في الرأي السياسي، فنشر مقالاً يدّعي فيه بأن العمل يسوّق للسلطة، وبأن الخبر مجرّد فبركة وأكاذيب، معتبراً أن الفريق مجرّد صحافيين يشتغلون بمنطق «الفري لانسر» وأن ما حصل هو تسويق مجاني! بدوره، يقول سمير حسين لـ«الأخبار» إن «الفريق الصحافي الألماني وصل بالفعل إلى الشام وأنهى مهمته، وغادر قبل أيام. وقد عرّف هذا الفريق عن نفسه وأشهر بطاقته الرسمية الممهورة بـ«لوغو» واسم الجريدة. دار الحوار حول مجموعة نقاط، أهمّها هامش الرقابة ما قبل الحرب وما بعدها، وكان جوابي منطقياً، معتمداً على أرض الواقع بأن تراجع هامش الرقابة بشكل بسيط في مهنتنا، لكنّ الأمر يحتاج إلى المزيد. أما التفصيل الثاني، فكان رغبتهم في معرفة ما إذا صوّرنا من خلال تقنيات «غرين سكرين» من دون الخروج إلى الشارع، وبالطبع نحن لا نملك هذه التقنية، ولسنا بحاجة إليها في هذا المسلسل. لذا كان لا بد من أخذ الفريق الصحافي في جولة في شوارع دمشق، وشرح تفاصيل خدماتية وبعض الفوضى الاجتماعية التي حدثت على خلفية الحرب، وقد تولّى هذا المسلسل ترجمتها الدرامية».