ربما أكثر ما يميز فيلم ميشال كموّن «بيروت هولدم» هو القلق المتناثر في كل زواياه، والمؤدون الماهرون الذي يلعبون أدوار البطولة. يستثمر المخرج اللبناني ميشال كموّن كثيراً في الفكرتين معاً: المؤدون المؤثرون كالفلسطيني الماهر صالح بكري، فادي أبو سمرا، عصام أبو خالد، زياد صعيبي، زينة صعب دي ميليريو وسعيد سرحان. يضاف إلى هؤلاء كم هائل من الضيوف النجوم في أدوارٍ قصيرة كطلال الجردي، ميشال جبر، محمد عقيل، نبيلة زيتون، نيكول كاماتو، يحيى جابر، وبالتأكيد المخرج القدير روجيه عسّاف. أسماءٌ كبيرة يلتقطها ميشال كمّون ليضعها في أدوارٍ كأنما صنعت خصيصاً لها، في فيلمٍ من كتابته (سيناريو وحوار)، يدور حول مدينةٍ تسير من قلقٍ إلى آخر، من خوفٍ إلى آخر. يعود زيكو (صالح بكري) إلى مدينته بعد سنواتٍ في السجن. إنه لا يزال على حاله. أصدقاؤه أحوالهم كأحواله. ثلاثة أصدقاء منهكين، متعبين، وبالتأكيد على حدود النجاح والفشل: ربيع (عصام أبو خالد) الجوكي الذي يرعى الخيول، ويهتم بها، ويسابق بها. هو ذو شخصية ضعيفة، ومتخاذل؛ يعمل لدى مدير عمل قاسٍ لا يرحم (طلال الجردي). جورج (فادي أبو سمرا) الميكانيكي الذي يبدو «حربوقاً» بالعامية اللبنانية، لكنه أيضاً فاشلٌ في زواجه من ريتا (نيكول كماتو) التي يحاول أن يجد مكاناً يقف فيه في العلاقة بينهما. فادي (زياد صعيبي) الساعي إلى إيجاد نفسه، يحاول التغطية على كل ما حوله بزاوجه من رشا (زينة صعب دي ميليريو). كلٍ شيءٍ يجري بقلقٍ وبسرعة في الفيلم: زواج، وإنجاب وموت، علاقات سريعة عابرة، وأخرى أكثر طولاً. الزمن لا مقياس ثابت له. القصة فجأةً تتسع بشكلٍ افقي وعامودي مما يجعل المشاهد يشعر أنه أمام فيلم هوليودي أكثر منه فيلماً لبنانياً معتاداً. يجيد المخرج كمّون الحكاية كثيراً، فكاميراته تنتقل بسلاسة بين مشاهد المدينة التي تجتاحها التفجيرات الارهابية، فضلاً عن الوهن المتزايد والمتناثر بين جميع طبقاتها وسكانها، وما الحي الذي تدور فيه القصّة وحيوات الأبطال إلا صورة لا تتجزأ عما يحدث في المدينة.
أدائياً يمكن الحديث مطولاً عن اختيارات المؤدين/ الممثلين: صالح بكري أحد أهم الممثلين الفلسطينيين لا في جيله أو في فلسطين فحسب، بل عربياً وعالمياً حتى. يؤدي بكري كما لو أنه «خلق» ممثلاً، خلق ليكون هذه الشخصيات التي يؤديها. إنه أشبه «بمتقمّص مطلق»؛ إذ ينسى المشاهد أنه يشاهد صالح بكري، جل ما ينتبه له أنه أمام «زيكو» مدمن القمار والمجرم الخارج من السجن الباحث عن لحظة بطولة سواء عبر دفع نفقات علاج والده، أو حتى في علاقته الإنقاذية مع فتاة أنقذها من ضربٍ مبرّح من عشيقٍ سابق (ريتا حايك) أو حتى مع حبيبته السابقة كارول التي فشل في إثبات أي شيء لها. يستخدم بكري صوته جيداً، يدعمه بحركة جسده البسيطة، فنضحي أمام «زيكو» خاص مليء بالخدوش والكسور والتشوهات كحال الشخصية الأصلية. في الإطار عينه، تنبه كموّن فأحضر إثنين من أهم الممثلين في الساحة اللبنانية حالياً فادي أبو سمرا، الذي أثبت ولا يزال، أنه قادر على أن يؤدي بحرفةٍ عالية، مهما كان حجم الدور صغيراً. يعطي أبو سمرا من قلبه، سواء في التلفزيون ومسلسلاته التي تحصر حركته أو في السينما وعالمها الرحيب؛ وهذا يحسب له كثيراً. عصام أبو خالد بدوره، يستطيع بسهولة إقناعك بأنه هذا «الكاراكتر» الذي يلعبه، يجيد اللعب على المشاعر، المخرج المسرحي الموهوب، يستطيع أن يقلب الدور الذي يلعبه بسهولةٍ وهدوء، حتى لتقتنع بأنه هو نفسه. زياد صعيبي من جهته، ينجح بألا يقل مستوى عن زملائه الثلاثة، يحاول تقديم أداء ممتع، وإن عابه أحياناً تمثيل زائد (over acting). نسائياً بدت الشخصيات النسوية في الفيلم بعيدةً عن الأدوار الرئيسية، فظلت جانبيةً إلى حدٍ كبير، فمعظم مَن ظهرن على الشاشة لا يعدو كونهن شخصيات «مساعدة/ ثانوية». إنهن يكملن الصورة، ولا يشكلنها لوحدهن أبداً، وعلى الرغم من وجود مؤديات ماهرات مثل آنجو ريحان إحدى أجمل المؤديات في جيلها حالياً، وأكثرهن موهبةً، إلا أن دورها أقصر من قصير. الأمر نفسه ينسحب على أسماء كثيرة مثل ريتا حايك، نيكول كماتو، نبيلة زيتون، وكان من الجميل مشاهدة عودة زينة صعب دي ميليريو إلى الشاشة بعد غياب سنوات ولو أن دورها كان قصيراً (لربما آخر ظهور لها كان في مسلسل «طالبين القرب» قبل أعوامٍ طويلة). من جهةٍ أخرى، بدا استعمال تقنية الضيوف (cameo) واحداً من أجمل نقاط الفيلم، إذ إن وجود ممثلين قديرين مثل ميشال جبر، طلال الجردي، محمد عقيل، فضلاً عن المخرج روجيه عسّاف أضاف كثيراً للفيلم، وأعطاه نقلةً خاصة، لناحية أنه حتى الأدوار الصغيرة في الفيلم مؤداة بعناية من قبل محترفين. قليلةٌ هي الأفلام اللبنانية التي يمكنها أن تنافس هذا بالتأكيد.
أمرٌ آخر يمكن الحديث عنه وحوله، هو لغات الفيلم في الحوار والخطاب؛ ففي حوار الفيلم: تكثر الشتائم، السباب، وهذا أمرٌ يمكن تفهمه، خصوصاً أن صاحب فيلم «فلافل» (قبل ستة عشر عاماً) يريد أن يصوّر المجتمع الواقعي كما هو ضمن مدرسةٍ أشبه بالواقعية المدهشة الأميركية الجنوبية. في الوقت نفسه، ليس هناك من تخفيف في الأمر، بمعنى أن لغة الحوار هذه لا تستخدم بشكلٍ دائم يومي/ حياتي، حيث تختفي حال عدم الحاجة لها حتى بين الأصدقاء المعتادين عليها. أما لغة «خطاب» الفيلم، فهي تمزج بين القسوة والقلق والمباشرة، وبين محاولة التخفيف من وطأة ما يحدث: المدينة القاسية والسريعة الحركة التي لاترحم ذات الانفجارات بين الفينة والأخرى، التي لا تعني أحداً بمقدار قربها منهم. الأبطال المكسورون بشكلٍ لا يمكن رأبه، فمن البطل الرئيسي إلى جميع من حوله. تقنياً يسعى المخرج لتقديم صورة متناسبة لما يحتاجه الجو العام، فيختفي الضوء كثيراً، ونقترب من الليل أكثر، بكامل قسوته وقوة أضوائه وأحياناً خفوتها. تتحرك كاميرا سيلين بوزون بمهارة وإتقان مذكرةً بالسينما الإيطالية والفرنسية في آنٍ معاً، لناحية اقترابها من الوجوه وتفاصيلها ومراقبة ادق الحركات.