«حياة بدون ذاكرة، ليست حياة، تماماً كما أنّ الذكاء المسلوب من قدرته على التعبير عن نفسه، ليس بذكاء. ذاكرتنا هي تماسكنا، عقلنا، إحساسنا، وفِعلنا. بدونها، نحن لا شيء» (لوي بونويل)
«لم ترَ شيئاً في هيروشيما» بعبارة مارغريت دوراس المتقشّفة التي زادها تراجيديةً صوت جان مورو في فيلم «هيروشيما يا حبي»، استطاع المخرج ألان رينيه أن يقول ما لا يقال، أن يصف ما هو عصيّ على الوصف، أن يستحضر التراجيديا الفظيعة التي وقعت يوم السادس من آب (أغسطس) 1945. جملة، تخفي أكثر مما تفصح، اختصرت ببلاغة عميقة صوراً ومشاهد عن فظاعة تلك اللحظة التاريخية، وأحيت ذكرى 100 ألف شخص قضوا في القنبلة المشؤومة. جملة أرتنا الأشلاء، جعلتنا نشمّ رائحة الجثث المتفحّمة، أشعرتنا بالفجيعة الهائلة التي لا يمكن أن تحتويها صورة أو لوحة أو أي عمل فني.
بعد ثلاثة أيام على انفجار القنبلة النووية، هرع الفنانان إيري وتوشي ماروكي إلى المدينة اليابانية المنكوبة، ليجدا نفسيهما محاصرين بين الجثث المتفحّمة والأبنية المسوّاة بالأرض والموت والذباب والديدان والموت. بقيا أسابيع غارقين في الإسعافات ودفن الضحايا، ولم يبدآ بتوثيق التروما التي كانا شاهدين عليها إلا بعد مرور ثلاث سنوات على الفاجعة. جهد استمرّ 32 عاماً أسفرت عنه 15 لوحة فنية بعنوان «ألواح هيروشيما» استحضرت الذاكرة المُثخنة كما عايناها وعايشاها على الأرض.
مثالان يبرزان كيف يمكن للفن أن يهضم الكارثة، يستحضرها، يكون أميناً لها، لذكرى ضحاياها، يستدعي المأساة بدون أن يسلّعها، يأتمن على الذاكرة ولا يستعرضها إلى درجة الإشباع وتبلّد الأحاسيس. نستحضر هذين المثالين على وقع ملف التجاذب السياسي لقضية الأهراءات، ومرور الذكرى الثانية لانفجار مرفأ بيروت. عامان على الكارثة، كيف تعاطى الإعلام والثقافة في لبنان مع هذا الجرح المفتوح، مع أهل فقدوا أولادهم، وأحبّة خسروا أحباءهم، وأفراد تغيّرت حياتهم إلى الأبد عند زهاء السادسة من عصر مشؤوم؟
قبل أيام من الذكرى الثانية، بدأت تنتشر على السوشال ميديا تحقيقات ومقاطع فيديو مصوّرة لأشخاص فقدوا أحبّتهم في ذلك اليوم، وأخرى تستطلع أحوال مصابين ما زالوا يقبعون في المستشفيات منذ عامين... سيل من المواد البصريّة، موجعة في جزء، فيما بعضها الآخر جعلنا طابعه المُمسرح نَخجل أنّه لم يحرّك فينا ساكناً. على جبهة الفنّ، غرقت الساحة منذ عامين في أعمال فنية وسينمائية حضر فيها عنصران: انفجار المرفأ و«ثورة 17 تشرين». أفلام اتخذت من ذلك اليوم موضوعها، لكنّها بدت «مناسباتيّة»، مطبوخة على عجل، تفتقد النضج في الخطاب الجمالي والمضموني، تُسقطها الذاكرة بعد دقائق على مشاهدتها. حتى إنّ هناك أفلاماً استدرجت المرفأ إلى فضائها من دون أن يكون موضوعها الانفجار الرهيب، كأنّه استحال «زينة»، أو نوعاً من «موتيف» مطلوب في كل عمل فني. لقد صار الأمر أشبه بـ «بازار» لما يستمرئه المموّل ربما أو لضرورات «التريند». جراحات وآلام وأوجاع الناس والضحايا أضحت «بضاعة» أو سلعة ذات رواج هائل. تحضرنا هنا ما قالته سوزان سونتاغ في «الالتفات إلى ألم الآخرين» (2003) عن أنّ «التعاطف إحساس متذبذب يذهب إما إلى حثّنا على الفعل أو يندثر»، وأنّ سيل المواد البصرية، الفوتوغرافية أو الفيلمية، قد تصيبنا بتبلّد الأحاسيس والمشاعر وفقدان التعاطف. نستعيد أيضاً ما حصل في الدورة الأخيرة من بينالي البندقية للفنون. السويسري كريستوف بوخيل المعروف بتجهيزاته الاستفزازية، جاء بحطام سفينة غرقت في المتوسط عام 2015، ما أدى إلى مقتل 800 مهاجر كانوا يحاولون العبور إلى أوروبا. هكذا استجلب الفنان قارب الموت إلى البينالي ليعرضه تحت اسم «مركبنا». عَرض العمل على رصيف البينالي، طرح إشكالية شغلت المهرجان طوال أيام انعقاده: هل هذا العمل نُصب تذكاري يحيي ذكرى هؤلاء الذين قضوا على أعتاب أوروبا، أم أنّه في السياق المعروض فيه، مجرد استعراض عديم الأخلاق يستغلّ آلام الآخرين، ليقدّم وصلة ترفيهية لروّاد البينالي المتأنّقين الذين سيتوقّفون لوهلة، يتمعّنون بحطام القارب، قبل أن يستكملوا مسارهم تحت سماء البندقية؟