مرّت سنوات كانت بالكاد تبرز فيها ظاهرة ثقافية مفردة تنقذ المشهد من بلادته... تلك البلادة والكآبة التي خلّفتها الحروب والأزمات والوباء، على مجتمع لم يعتد سوى الغليان في كل الاتجاهات. لعلّ قوس العام 2020 قد بلغ منتهاه في سحب وتر الحياة إلى الوراء لكي ينطلق خلفه 2021 من منزعه الأخير نحو مشهدية متعدّدة الأوجه، لا تكاد تتقبّل سيادة جنس فني أو أدبي في تسابقها المتعطّش في العراق، كما حدث في سنوات الشعر والسرد الروائي في بعض فرص إنتاجهما الغزير. كانت 2021 سنة عافية عريضة في الثقافة العراقية، بفنونها وآدابها ومسرحها، أنتجت، لا سيما في بغداد، حراكات على صعد متنوعة أشّرت إلى طبيعة الهدنة بين قوة الحياة وقوى تنازعتها مراراً في السنوات الأخيرة. فالثقافة هنا لمّا تزل تحتفظ بترفها ونرجسيّتها حين تكون أول المحتجبين عند تراجع الحياة العامة، وآخر المحتفلين والحضور عند انفراجها. وعندما يكون الحديث عن حركة شاملة في الانفتاح والتخطّي، فهذا يؤشّر إلى عافية مجتمعيّة بالكامل بعد طول تصبّر على عتبات أزقة الروح، ناهيك بعتبات الشوارع المثقلة بصور الضحايا. أربعون عاماً من مختبرات التجارب التي عجمت أعواد بلد لم يكد يلتقط أنفاس عافية وغيث فيه إلا وعاجله القدر- قدرهم- بنفق مستحدث من الصبر والشتات والضحايا. هو بلد لا ينفصل عن محيطه العربي بالروح والأسى والتوق، لكن نسخته مفرطة في الوجع والنسيان. إذاً كان 2021 عاماً من الأمل وهدنة صباحية مع مخالب الجلادين، نأمل أن تطول.
رحل سعدي بابتسامة مرّة وساخرة و«شاتمة» على عادته، أسفاً لما انتهت إليه البلاد وسجايا العباد

«المتنبي» و«مسرح الرشيد»
لم يكن توقيت الاحتفال برأس السنة ثقافياً في «شارع المتنبي» ليمرّ من دون وقفة ومعنى. هذا الشارع برمزيته وشهدائه وتاريخه، كان مفتتحاً لليلة رأس السنة الجديدة باحتفال مهيب بعد العمل على ترميمه طوال أشهر إيذاناً ببدء مرحلة جديدة من حياته. «شارع المتنبي» أصبح لسنوات موئلاً للشباب الذين يرومون البوح بسرّ حبّهم للثقافة والهوية والوعي. لقد قطع الناس صباحات كانت مهمة الوصول إلى الشارع محفوفةً بأشدّ المخاطر. لكنّ إصراراً مدهشاً كان يدفع الحشود من كل الأعمار لتحدي المفخخات والقتلة المندسّين بين الحشود إلى مواصلة ندائه السحري. إعلان انتصار «شارع المتنبي» في 2021 بعد تكريسه ملاذاً ومولداً للكتاب، كان حدثاً لا يضاهى، وافتتاحه ليلاً كان إشاعة للتصريح بأمان وإضاءة الطريق الموصل إليه. يحدث ذلك بالتوازي مع حدث ليس أقلّ شأناً في الحياة الثقافية العرقية ورمزيةً في روحها المنتظرة للعودة إلى ذاتها التي تعرف، وهو إعادة تأهيل وافتتاح أكبر مسارح بغداد المحطّمة بعد العدوان الأميركي وهو «مسرح الرشيد». هذا المسرح بقي موضع تنازع شديد وإهمال متعمّد من قبل حكومات متعاقبة، أصرّت على تركه كخربة مأساوية وسط إحدى أهم مناطق بغداد الحيوية، محتفظاً بسخام النيران على جدرانه منذ عام 2003. على أن صورة الحياة لم تكتمل بعد بما يكفي، إلا بعد تفتّح آفاق أخرى عزيزة على التشكيليّين العراقيّين. إذ دشّنت ثلاث قاعات فنية جديدة للمرة الأولى منذ عقدين. دشّنت قاعاتها بمعارض مشتركة لتؤذن بانطلاق مراكزها الثقافية وندواتها ضمن مناهج وبيانات تبشّر بولادة مطبوعات فنّية ونقدية مهمة. هذه الآفاق المتلاحقة صنعت حركة متفائلة وواقعية في يوميات السنة المنصرمة، وأضاءت الكثير من الزوايا التي كانت مهملة، ولا أمل فيها قريب قبل ذلك.

مهرجانات المسرح والسينما
لولا خشية المغامرة ونقض ما قدّمنا عن حياد الأجناس الفنية الأدبية المتبارية في 2021، لقلنا إن السنة كانت سنة المسرح العراقي. هذا المسرح العريق الذي شهد أحد أهم حدث له على المستويَين العراقي والعربي بإقامة «مهرجان العراق الدولي للمسرح»، الذي أقامته نقابة الفنانين بالتعاون مع «الهيئة العربية للمسرح»، تضمن عروضاً من مختلف الدول، وعقدت خلاله ندوات نقاشية ونقدية عديدة. كما طبعت دراسات وزعت خلال أيامه القليلة على المشاركين. ولا يقل أهمية عن ذلك، انطلاق «مهرجان أيام بغداد الدولي للمسرح»، بالإضافة إلى تقديم عروض ذات أهمية استثنائية مثل مسرحية «حرب العشر دقايق» (إخراج ابراهيم حنون.) التي كتبها علي الزيدي، ومسرحية «سردنبال» (إخراج عماد محمد) للشاعر والباحث خزعل الماجدي. وهما عرضان يتضمنان نقاشات مستفيضة تتصل بشكل مباشر بالتجربة العراقية وامتدادها التاريخي بحسب الماجدي، أو المعاصر بحسب الزيدي.

سعدي ولميعة
مع أنه العام الأقل خسارةً وتغييباً لمبدعيه مقارنة بالأعوام السابقة بحصادها المباغت، إلا أنّه اختار أن يكون ثقيلاً ونوعياً في اختياره. فقد غيّب الفقدان في سنة الجائحة وما قبلها جملةً من الأسماء يمكن التفرغ لإحصاء عددها ممن يعنون الكثير في الشعر والسرد والتراث. لكن سنة 2021 اختارت قطبَين كانا رمزين واسعَي التأثير على اختلاف طبيعتيهما وجرحهما للواقع. الشاعر الكبير سعدي يوسف بكل ثقله الأدبي والثقافي ومشاكساته المختلف في شأنها خلال سنوات نضوبه الأخيرة، والشاعرة أو كما يُشاع أغنية الشعر السيّابية المغنّجة لميعة عباس عمارة. رائدان مؤسّسان لحداثة العراق الشعرية، ومناضلان بالكلمة والموقف والشعر، كما في ذات المستوى شاهدان على تحوّلات سياسية واجتماعية لا نظير لها في تأريخ العراق منذ هولاكو. كلاهما رحل مبتسماً، لكن ربة الشعر الجنوبية رحلت بابتسامة حب عاشقة وقهقهة مثل تلك التي تتخلّل غزلها الصريح على المسرح، ورحل سعدي بابتسامة مرّة وساخرة وأكثر من ذلك «شاتمة» على عادته، أسفاً لما انتهت إليه البلاد وسجايا العباد.

معرض الكتاب
كان تتويج العام بمعرض الكتاب باحتفالياته الموسيقية وندواته وطبيعة ضيوفه العراقيين والعرب، خاتمةً مواتيةً لطبيعة السنة. تضمن أكبر تجمّع للكتاب ودور النشر العراقية والعربية القديمة والمستحدثة، كما مهرجان الجواهري الشعري أيضاً. لكن من الملاحظ أن المعرض المشار إليه هو معرض جامع أخير لباقة من المعارض الأخرى التي أقيمت طوال عام 2021 مثل معرض أربيل والبصرة والسليمانية والنجف، وأضمامة مواتية لمهرجانات الشعر مثل المربد والمتنبي والجواهري وغيرها. كل ذلك مضافاً إليه زخم كبير من الجلسات النقدية والحوارية العراقية والعربية لمفكرين وأدباء من مختلف التخصصات. سنة لم تفتر عن انعقاد حدث ثقافي أو تجمع فني أو دعوات وجوائز ومحاولات شبابية مبتكرة في السينما الناشئة والطموحة نحو كتابة رؤية سينمائية عراقية وليدة تنتهز فيها غياب الرقيب لطرح طريقتها المستجدة في معالجة زوايا وقضايا لإشهار صورتها وصوتها القادمين.