فرضت الذائقة العربيّة الكلاسيكية الفنيّة والفكرية، على مدى عقود، عناصرَ عَدَّتْها من سبل الإجادة والشعرية بشكل عام. فيطالعك في احتكاك الشاعر العربي لقرون بمسألة الغياب والمكان المتهدّم الممحوّ، أي الأطلال بما هي رمز ووسيط بين الغائب المطلوب والحاضر المسلوب الفارغ، موقفُه الذي يتمثل بالوقوف والبكاء تحت عنوان ذي انعكاس نوستالجي: «قفا نبكِ». تضاف إلى ذلك عناصر عديدة منها المضامين المختلفة التي لا مجال لذكرها هنا، وعموديّة النظم الموزون والمنظم، ما أنتج بنيةً فكريّة (شعريّة) سلطويةً تأخذ قوّتها و«جزالتها» من عموديّتها التراتبية. بعيداً عن المجال الأدبي، حصلت زعزعة هذا النظام الفكري أخيراً، ضمن احتكاك الفلسطيني مع الغياب المفروض من السلطة المحتلة، مستبدلاً هذه المرّة البكاء على طلل متهدّم بالابتسامة أثناء الاعتقال. ولا يخفى بين الحالتين اتّضاحُ الاشتراك بفكرة الاعتقال، فالأول «معتقل» من قبل الماضي مستسلماً لحنينه وأساه، وهي سلطة الغياب النفسية، أما الثاني فمعتقل في الحاضر عبر كيان يفرض الغياب، وبشكل أوضح «الطرد» والتهجير من المنازل العامرة لا الطللية. هناك تغيّر حاصل في البنية.

لحظَ الناشط المعتقل هذه الكيفية في زعزعة العمل السلطوي القهري، فإذا استخدم الشعراء الحداثيون هذه الأساليب من نكتة ودعابة وتخريب وبعثرة للنسق العمودي المتعاهد وبنيته ابتغاء شعرية مختلفة، فإن الأمر نفسه هو ما فعله المعتقَل في الحياة الواقعية، مقويّاً بذلك موقف وجوده وحضوره عبر الابتسام أثناء القمع التغيّبي. في حين كان الشاعر الكلاسيكي يتفشّى في الطلل والطلل يتسرّب في روحه، جاعلاً من حضوره نوستالجيا تميّع الحاضر، كما يطالعك البيت «لك يا منازل في القلوب منازلُ» مثلاً... نصل بذلك إلى التالي: البكاء فعل غياب أمام أسباب هذا الغياب وأشكاله واستسلام لسلطته، والابتسامة فعل مجابهة لأشكال الغياب وتأكيد حضوري للموقف الوجودي، لا يخلو من التهكّم والتحدّي والنشاط السياسي... بل قد يصار إلى الذهاب أبعد من ذلك، هو أن الموقف الغيابيّ يلائم السلطة المحتلّة القامعة أكثر، وهنا يبرز صراع بأوضح أشكاله: إنه الغياب والحضور. كيف يتبدّى هذا الأمر ضمن المشهد والموقف؟
المشهد أولاً هو التالي:
فتاة/رجل/طفل، يتعرّض للاعتقال من قبل عدوّ، بزيّ خدمته، وبالأوامر التي توجّه إليه، مجهزٍ بكل المعدات القمعيّة، الدفاعيّة والهجوميّة، أكثر عدداً، والمعتقل/ة مصفّد اليد لما وراء الظهر منعاً لمقاومته التي تبدر كردّ فعل مباشر بأمر دماغي إلى اليد أداةِ التصرّف الأولى للإنسان. رد الفعل الدفاعي هذا تلقائي عادةً ونتيجته لا تتعدى الضرب الانفعالي، خصوصاً إن كنت محاصراً من كل الجهات. وفي هذا المشهد بالضبط، وأثناء تنقّل الكاميرا وتغطيتها لعملية الاعتقال، في إحدى اللحظات ولثوانٍ معدودةٍ، يحصل التالي: يتّجه المُعتقل المكبّل بوجهه إلى بؤرة الكاميرا، وتبرز على فمه ابتسامة بشوشة، ثمّ: لقطة.
من الطبيعي أن الابتسامة تُعدّ من مفردات العادي واليومي الروتيني، ما يصاحب الجلوس باسترخاء والدردشة عن آخر الطرائف والأخبار اليومية والأحداث التي تمرّ مع أحد طرفي الحديث، ويكون إبرازها في هذه الحالة نتيجةً لعلامة رضى ومرح أو علامة تملّق للمحدِّث أو مجرد لباقة. وهي في كل هذا غير أساسية في مجريات الحديث أو أحد مقوماته التي قد ينتفي من دونها. لكن ماذا لو انتقلت هذه اللفتة اليومية من ضمن العادي إلى موقفٍ بعيد عنها كل البعد، بل حتّى هو النقيض الفطري في الموقف: الابتسامة كردّة فعل على التعرّض للاعتقال. من خلال الملاحظة، إن أول فرضية تسقط هي التلقائيّة، التي وإن كانت مُتَوَقّعَةً من فعل كهذا، إنما هي في بدايتها الأولى، ردّة فعل مقصودة. وإن وضعنا هذا الفعل بمقابلته مع فعل الذي يملك السلطة القهرية، بما يحمله من تنظيم وتركيز على تكبيل وتوجيه الإنسان بالعنف إلى عربة الحبس، أي قمّة القصديّة، فسوف تعود الابتسامة إلى إصابة عنصر العفوية لِلّذي يرى الصورة من بعيد. إنّها ساحة كاملة للتناقضات، مقصودة من الطرف الأقل قوّة من حيث الأدوات والحيثيات.
بين كل انتفاضة وأخرى، تصدّر المقاومة الفلسطينية أشكال كفاحها المتجدّد


لا يحتاج هذا الفعل الإنساني الضئيل في حجمه إلى اعتراف أو تبني مقاومته، هو باختصار فعل مقاومة، يعرّي السلطة التغييبية، عبر وعي فاعله بما يفعله: «أبتسم أمام الكاميرا أثناء اعتقالي». يثبت وعيه به أولاً، تكرُّر هذه الصورة لعدّة أشخاص، مثيرةً نحوهم الانتباه عبر التناقض والتضاد الحاصليْن في الصورة. تتقاطع حينئذ فرادة الحدث الفلسطيني، جماعياً وفردياً، في وسائل التواصل، مع فرادة تعامل أفراده في خضمّه من جهة، ومن جهة أخرى، يحصل التقاطع عبر إصابة أساليب الرواج في عالم الميديا، حيث إن الغرابة والتجديد إنسانياً في التعامل مع حدث ما، ولو عبر ظاهرة بسيطة كابتسامة، يلقيان فضولاً وتهافتاً لتحرّي الأمر أضعفَ الإيمان. وتنطلق رحلة هذه الصور إلى التلقّي الشاسع في العالم، واختلاف تناول ظاهرتها، مروراً من الحدث، إلى كل المجالات، كأن يصل إلى هذه الصفحة مثلاً. تتحوّل حينئذ ظاهرةً لخدمة قضيّة كاملة، نافذة نحو رسالة موجّهة، وإلى أداة فعّالة في الجذب والتعريف بما يحصل دون أي كلمة واحدة بعدُ. فتخيّل شخصاً في بلد آخر لا يمتّ إلى واقع بلداننا وأحوالها بصلة، سيميل مباشرة إلى الإنساني في الصورة الذي ينعكس بفعل الابتسامة أمام تجهّم الكثرة المحيطة بالشخص المبتسم، وتعرية موقفهم بشيء طفيف مثلها. بالتالي سيتوجّه المشهد بدعوة إلى الوعي الإنساني، فاتحاً الباب أمامه إلى الوعي السياسي.
قد لا يبدو هذا الأمر أكثر من ارتجال ضمن أمر واقع، ولكنْ تواتر ما يبدو ارتجالاً ما، وتأثيره بالوصول إلى العالم على أنه نوع من إضاءة الموقف برمّته، ذلك يقرّبه أكثر من وصفه بالحراك، ويجعله كلما تكرر أكثر وجرى الاقتداء به، شكلاً من أشكال المقاومة الشعبيّة. وقد يقول قائل إن في الأمر عبثية ما، لكن كيف يكون لعبثية نتيجةٌ ملموسة، إن كان كما أسلفنا في جذب الأنظار، أو في إبراز المشهد رمزيّاً على حقيقته. بل على العكس، فالفعل أقرب إلى تسخير العبثية نفسها سلاحاً، فهي عبثيّة على المدى القريب، ويقينُ الكفاح من أجل التحرر على المدى الطويل، وليس انتهاءً بالمقاومة الفردية فالاعتقال فحسب.
يتفشّى هذا التضاد عبر كل شيء إذن، اشتباك كامل، بدأ بشكله المبدئي هكذا: جندي/رجل، جندية/امرأة، رصاصة/حجر، صاروخ/مقلاع، وأخيراً بدأ يُضاف إليها: اعتقال/ابتسامة موجّهة، قبّة حديدية/رشقة صواريخ... إنه هدم داخلي للتسلط عبر وتر التضادّ، وخلق تقابلات وانزياح عن المعنى المتواتر في إشارة ملحّة، كذلك الأمر إلى فضح التناقض الموجود بين محتلّ وأرضٍ لا يملكها فعلياً. إن كلمات مثل «تضادّ- تقابل-انزياح» تجتمع مع الأسلوبية في الكتابة، فهل في استطاعتنا الكلام هنا عن: شعريّة هذا الفعل خارج النطاق الكتابي؟
على أي حال، فالمؤكد أنّه بين كل انتفاضة وأخرى، وصولاً إلى نهاية مرتقبة، تصدّر المقاومة الفلسطينية أشكال كفاحها المتجدد، تصيب بشكل مباشر وغير مباشر، وتترك خلفها كل مرة قولاً جديداً نلتفت إليه، قولاً لا ينتهي مع كلّ تكتل لانغلاق جديد. تكون على وشك القول بأنها انغلقت، فينتفضون.