استعان جلال أمين بأداة الاستفهام «ماذا» مفتاحاً لعنوانَي كتابيه الأشهر: كتاب السيرة «ماذا علمتني الحياة؟»، وكتاب التحليل «ماذا حدث للمصريين؟». لكن أداة الاستفهام في بداية الجملتين، وعلامة الاستفهام في نهايتهما، لم تكونا إلا مجازاً، فهو لا يتساءل حقاً، بل يرصد ويحلل. يرصد نفسه ــــ والأقربين ــــ في سيرته، والمجتمع المصري ــــ عبر نصف قرن ــــ في تحليله، وكثيراً ما أجاب بنفسه عن الكثير من الأسئلة، وهي أسئلة طرحها لأنها اعتملت في نفسه، أو لأن أحداً غيره لم يطرحها.هكذا يبدي اندهاشه، في سلسلة المقالات التي نشرت أولاً في مجلة «الهلال» منتصف التسعينيات، ثم تحولت إلى كتاب «ماذا حدث للمصريين؟» بعد الصدى الواسع الذي حققته، من أنه لم يجد دراسة واحدة معمقة تتناول أثر «الحراك الاجتماعي» على ما حدث للمصريين. والمقصود «بما حدث» هو سلسلة التغيرات التي أصابت ــــ وفق خبراء اجتماع ــــ الشخصية المصرية خلال النصف الثاني من القرن العشرين. شخصية اتهمت بضعف الولاء وغلبة السلوك الفردي والتفكير اللاعقلاني في الدين، وغيرها من سلبيات. وجد جلال أمين أن الحبر الذي أريق في محاولة تفسير تلك الظواهر، كان يركز على ظواهر منفصلة ومحدودة، على غرار الانفتاح الاقتصادي في عصر السادات، أو هجرة المصريين ــــ وهم ليسوا مهاجرين بطبعهم ــــ إلى دول الخليج. ولا ينكر أمين تأثير تلك الظواهر، لكنه يرى أن محلّليها تجاهلوا تأثير الظاهرة الأخطر، وهي التغير السريع والهائل في العلاقة النسبية بين الطبقات بعد ثورة يوليو 1952. كان الانتقال «الفردي» من طبقة لأخرى متاحاً في العهد الملكي من دون التأثير على المشهد الاجتماعي العام (قلة من الأثرياء وأغلبية ساحقة من الفلاحين). وعلى الرغم من أن جهود طه حسين وزير المعارف قبل ثورة يوليو، ساهمت في حراك سببه مجانية التعليم قبل الجامعي، ما أتاح للفقراء أن يتعلموا فيرتقوا طبقياً، إلا أن السياسات الناصرية في ما بعد أسهمت في «دفع الحراك الاجتماعي إلى معدلات غير مسبوقة» عبر مجانية التعليم الجماعية والتأميم والتصنيع والإصلاح الزراعي. أمر أدى إلى «خفض المراكز الاقتصادية والاجتماعية للأرستقراطية الزراعية والرأسمالية الكبيرة (..) ورفع المستوى الاقتصادي والاجتماعي لطوائف واسعة من المستأجرين الزراعيين والعمال الصناعيين وأصحاب المهن».
يضع جلال أمين «الحراك الاجتماعي» قبل الانفتاح في فراغ البازل المخصص له، وينتقل منه إلى عوامل أخرى، كالتضخم، والتأثير الثقافي الغربي والشرقي على حد سواء، والتقسيمات غير التقليدية للطبقة الوسطى، وهو في هذا لا ينسى أن يفسر سبب إهمال الاقتصاديين ــــ وهو أحد أساتذتهم ــــ لتلك العوامل. ذلك أنها عوامل غير كمية، تحتاج إلى ما هو أكثر من الأرقام البحتة والميتة لقراءتها وتحليل أثرها الاجتماعي. من هذه البوابة، بوابة القراءة الاجتماعية والتأمل الأقرب إلى روح الأديب، دلف جلال أمين من عالم الاقتصاد إلى عالم الفكر، ومن البوابة نفسها، قرر، بعد حوالى عشر سنوات من «ماذا حدث للمصريين؟» أن يفحص نفسه وسيرته بالأدوات الهادئة الصريحة ذاتها، في سيرته الصادقة ــــ أو الصادمة ــــ «ماذا علمتني الحياة؟».
رغم أنه يقر في افتتاحية سيرته بأنه لم يقل كل الحقيقة، سواء لأنه لا يتحمل ذكر بعضها أو حتى لا يكون «كالنحات الذي أعاد الحجر كاملاً مرة أخرى»، إلا أن كتابه حمل من الواقعية ما يكفي لإثارة الدهشة تارة، بل الغضب أحياناً. لم يخل من لوم الذات، أو لوم الأب الأديب والمؤرخ أحمد أمين الذي «لم يناد أمه باسمها طوال حياتهما»، وهي التي حملت منه عشر مرات، ولم يستطع رغم ثقافته أن يتخلص من دور الديكتاتور ذي السلطة المطلقة. كما لم يجفل من التطرق إلى مشاعر الأم على نحو غير مألوف في السيرة العربية. فهي التي ــــ في ظنه ــــ احتفظت بحبها لابن خالها طوال حياتها، فلم تحب زوجها والد جلال أبداً. كما أن الأب الذي كان حتى في أقصى درجات عطفه على الأم يناديها فحسب «أم حمادة»، ظل يعاني من «قلة جمالها»، أما الابن، جلال نفسه، فكان قاسياً كعادة المراهقين على أبيه، تارة بإبداء عدم إعجابه بكتاب والده الشهير «حياتي»، الذي كان الأب يملي عليه بعض فصوله لما أصابه من ضعف البصر، ومعلناً أنه يفضل عليه «الأيام» لطه حسين، وتارة أخرى ــــ وفق ما يذكر في الجزء الثاني «رحيق العمر» ــــ حين كان يعود من صحبة أصدقائه من الخارج، فيتأفف من مجالسة أبيه ولو لدقائق، وهو الأب الذي ــــ بعد شحوب بصره ــــ كان يكتفي بالجلوس وحده في الظلام، متسوّلاً من الابن بعض دقائق الحديث.
أياً كان، فإن «مفاجآت» أمين في سيرته لم تكن عائلية فحسب، بل فكرية كذلك عكست ميلاً ــــ تزايد بعد ذلك ــــ نحو الفكر المحافظ، ربما، بعدما اكتشف، حسب مذكراته، أن «الحضارة الغربية» التي عايشها وتزوج بإحدى سيداتها، هي «غربية» في المقام الأول، ثم «حضارة» في المقام الثاني. كان هذا رأيه، الذي لم يخش ذكره صراحة ضمن كثير مما علمته له الحياة.