تحنّ بيسان إلى منزلها الذي نزحت منه مع طفليها في قرية ميس الجبل الحدودية. صمدت حتى لحظة قصف المنازل بجوارها، فشعرت ان البقاء يهدد حياة اطفالها. بصلابة، تؤكد ان الحياة اقوى من آلة القتل الصهيونية. تصف المنزل الذي غادرته، والقرية التي خلت من فرح سكانها بفعل الغارات وصواريخ العدو الإسرائيلي. بيسان واحدة من الاف النازحين من قراهم الحدودية بسبب العدوان الإسرائيلي. ورغم مرارة النزوح والقلق من غياب الدولة وتلكؤها عن القيام بأي مسؤولية تجاهها وفقا لما يكفله القانون للمواطنين في حالات الطوارئ والحروب، ترى ان نزوحها عن المنطقة الاحب لقلبها هو مساهمة صغيرة في المعركة بوجه عدو غاصب «حتى لو تُركنا في مواجهة مصيرنا من دون أي رعاية واغاثة وحماية وتحملنا كل التداعيات».بعد دخول الحرب شهرها التاسع، لا يزال العدو الصهيوني يرتكب أبشع الجرائم والمجازر بحق اهل غزة والجنوب اللبناني، منتهكا حقوق الانسان والقوانين الدولية ومستخدما كل أنواع الأسلحة المحرمة دولياً. فبعدما كانت الاعتداءات محصورة بالمناطق المتاخمة للحدود مع فلسطين المحتلة، تطورت لتطال مناطق بعيدة وصولا الى النبطية وبعلبك. مع سقوط العديد من أبناء القرى الحدودية التي أصبحت شبه مدمرة أو مدمرة كلياً، تعمد الة الحرب الصهيونية الى اعتماد سياسة الأرض المحروقة بغية تهجير الناس الى غير رجعة. ونتيجة للاعتداءات الإسرائيلية المستمرة على القرى والبلدات الحدودية، لا تزال حركة النزوح للجنوبيين قائمة، وتخطى عدد النازحين وفقًا لتقرير المنظمة الدولية للهجرة 92 الفا موزعين على النبطية، صور، صيدا، الضاحية الجنوبية، وجبل لبنان. فكيف هي أحوالهم؟ ولماذا يتركون من دون التفاتة الى معاناتهم واوضاعهم اليومية؟ وهل قامت أجهزة الدولة، وفق خطتها «الاستباقية»، بواجباتها في تقديم المساعدات والدعم اللازم، لا سيما بعدما تفاقمت أعباء النازحين؟ ام ان الدولة تتلطى خلف مزاعم العجز والافتقار الى الموارد والامكانيات لتبقى الخطط حبراً على ورق. ولماذا تتعمد السلطات انتهاج سياسة العجز الذي يضعف الإرادة السياسية والسيادة الوطنية والقانون ويسهل للقوى المهيمنة استغلالها خدمة لمصالحها على حساب المجتمع كله؟ معاناة أهالي الجنوب تستدعي إعادة التذكير بما يُفترض انه بديهي، وهو أن «الجنوب جزء من لبنان». ولأن واقع الجنوبيين النازحين لم يعد يحتمل المماطلة وتقاذف الصلاحيات والمسؤوليات، اما آن الأوان لوضع خطة واضحة وزيادة المساعدات لمن يدفعون ضريبة الهوية والانتماء عن كل الوطن؟

المأوى والغذاء حق يكفله القانون في حالة الحرب
بموجب القانون الدولي الإنساني، على الدول في حالة الحرب تأمين ظروف مناسبة لمواطنيها من حيث المأوى والأوضاع الصحية والوقائية والعلاجية والسلامة والتغذية. وتتضمن اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها احكاماً دقيقة للغاية حول «حظر ومهاجمة او تدمير المواد الاستهلاكية والاعيان اللازمة للإبقاء على حياة المدنيين (ومثال ذلك المواد الغذائية والمحاصيل والماشية ومرافق مياه الشرب وشبكاتها واشغال الري). بينما تقع على عاتق الدول في حالات الحرب مسؤولية القيام بأعلى مستوى من التنظيم والتنسيق في ما يتعلق بتأمين الحماية وكفالة حياة مواطنيها من الترويع والتهديد والايذاء والقتل بواسطة «المجرمين»، وتجنيد كل إمكاناتها للدفاع عنهم من أي عدوان خارجي يهدف الى السيطرة على ثروات الدولة أو إلحاق الضرر بمواطنيها وممتلكاتهم ومصالحهم، كما وتقليل الاضرار عليهم الى اقصى حد ممكن.

(مروان بوحيدر)

قد يُهيأ للبعض ان الدولة اللبنانية التي وضعت نفسها في حالة استنفار منذ بدء الحرب لمواجهة التطورات والتي انبثق عنها خطة الطوارئ الوطنية، وبغض النظر عن أوضاعها المالية وظروفها السياسية، تقوم بواجباتها تجاه مواطنيها الجنوبيين الذين يدفعون الثمن الأكبر في هذه الحرب. الا ان هذه الخطة لا تزال متعثرة بحجة عدم وجود تمويل، لا سيما بعدما رفض المصرف المركزي تمويلها بذريعة حماية ما تبقى من أموال المودعين، فضلا عن نقص الإرادة السياسية واليات التنظيم والتنسيق وتفكك مؤسسات الدولة، وهذا ما يجيّر وظائفها بشكل متعمد وعن سابق تصور وتصميم الى القطاع الخاص والأحزاب والمنظمات الدولية. اكثر من ذلك، لم تتحرّك الدولة إلا بعد مطالبتها من الأحزاب المحلّية بالقيام بواجباتها، فانحصر هذا التدخل بصرف مبلغ 300 مليار ليرة لبنانية لمجلس الجنوب لدفع تعويضات للمتضرّرين من الحرب. التجربة التي يعيشها النازحون بعد تسعة اشهر من الحرب على الجبهة الجنوبية، تشعرهم «ان الدولة لا تتحرك الا لإلغاء الدعم وتحرير الأسعار وتدمير مستوى المعيشة»، وان كل خطة منبثقة عنها تولد معطلة وغير قابلة للتطبيق ولا تواكب الاحداث بشكل جدي، بل ذهب بعضهم الى اعتبار الدولة في حالة اشبه بالموت السريري.

خطة طوارئ تحاكي حرب تموز 2006
خطة الطوارئ التي انبثقت عن مجلس الوزراء هي محاكاة مبنية بشكل أساسي على وقائع حرب تموز 2006, اذ قسمت لبنان الى ثلاث مناطق على المستوى الجغرافي وفق ما تعرضت له من قصف إسرائيلي، واستندت بذلك الى حجم الاضرار البشرية والمادية التي لحقت بلبنان. تحاكي الخطة التنسيق والتكامل على المستويين القطاعي والتنسيقي، فعلى الوزارات المعنية تحديد امكانياتها، وتجهيز خططتها وجردتها في ما يتعلق بالأمن الغذائي والصحة والاتصالات وتامين المياه والمحروقات، والايواء والإنقاذ، والحماية والامن، توقعا لأي توسع في العدوان الاسرائيلي. يتوجب تشكيل لجنة مركزية، يرأسها أمين عام مجلس الدفاع الأعلى، للتنسيق المركزي مع الجمعيات والمنظّمات الدولية، والتي بدورها تنسق مع لجان إدارة الكوارث المحلّية على مستوى الأقضية. على ارض الواقع، ولليوم، لم تنجز هذه المحاكاة «الاستباقية» بشكل كامل، رغم ان أكثرية التحليلات تشير الى توسع الحرب على صعيد الاستهداف والجغرافيا، لتصل ابعد بكثير من نطاق حرب تموز 2006، وخاصة ان الجرائم الإسرائيلية تلقى دعما من الغرب لا سيما الولايات المتحدة، مما يمنحها القدرة على استخدام الأسلحة المحرمة والتدميرية، ويشجعها على ارتكاب مزيد من المجازر من دون أي رادع قانوني ودولي. على صعيد اخر، لا تتضمن هذه الخطة إجراءات «استباقية» تحسبا لاتساع الحرب الهمجي، بل تتركز فقط على كيفية «لملمة» الضحايا عند وقوعها، من دون أي تفصيل يذكر عن ألية الاخلاء للمناطق الحساسة، او حتى المستشفيات الميدانية، والدواء والغذاء والمياه وغيرها. اذ يظهر الاختبار المحصور لتداعيات الحرب الاسرائيلية على الجنوب، فشل الدولة عن القيام بأدوارها البسيطة تجاه النازحين الجنوبيين، لا بل حصرت نفسها فقط بوظيفة التنسيق. أما حجم الخسائر والتداعيات التي بقيت خارج أي بحث حتى الان فستكون الكارثة الكبرى التي لم تقع بعد.

تكافل وتضامن مجتمعي في ظل غياب الدولة
بعد أربع سنوات من تفاقم الازمة الاقتصادية، وفقدان المواطنين أعمالهم وخسارة رواتبهم بفعل التضخم الجامح، ومدخراتهم بسبب الإفلاس المصرفي وسوء الادارة، يعيش النازحون الجنوبيون امام واقع صعب تحت مقصلتي عدو همجي من جهة، وغياب الدولة وتقاعس أجهزتها عن القيام بواجباتها في تقديم المساعدات لهم من جهة أخرى. وبعد الرهان الخاسر للدولة على المنظمات الدولية التي توقفت عن دعم النازحين الجنوبيين، تؤدي الجمعيات وبعض البلديات والافراد دورا كبيرا في تغطية العجز الحاصل، اذ تعمل بكل إمكاناتها لتقديم الدعم للنازحين لجهة الغذاء والدواء واساسيات العيش، وتؤمن الحماية الاجتماعية والمساعدات والخدمات لهم.

1- المنظمات الدولية
خلال الأشهر الأولى من الحرب، وبحسب مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، أمنت المنظمات الدولية 60,874 ألف بطانية موزعة على منطقة النبطية والجنوب، و241,789 ألف وجبة غذائية على المآوي الجماعية في صور وصيدا، و150 خيمة للنازحين، وقدمت الخدمات الصحية لـ 14,233 نازحاً. وحصل نحو 16 ألف اسرة ولمرة واحدة على مساعدات مادية نقدية. والجدير ذكره ان هذه المساعدات لا تطال كل الاحتياجات ولا تشمل كل النازحين وفقا للأرقام المبينة أعلاه، لا بل أكثر من ذلك، توقفت هذه المساعدات منذ كانون الثاني 2024 وترك النازحون لمواجهة مصائرهم.

2- جمعية «وتعاونوا»
«في ظل غياب تام للدولة اللبنانية والوزارات المعنية والجهات الضامنة عن المشهد الحاصل في الجنوب، وبعد انسحاب عدد من الجمعيات التي تحمست في الأشهر الأولى من الحرب لتقديم المساعدات وتلبية احتياجات النازحين، لا زالت جمعية وتعاونوا، معنية وشريكة بالمسؤولية تجاه مساعدة أهلنا الجنوبيين» وفق رئيسها عفيف شومان الذي يؤكد أن «الأمور ممتازة وتحت السيطرة وعلى أحسن ما يرام، لا بل اعددنا خططا مسبقة تحسبا لأي طارئ لا سيما الحرب، فالجميع في بيئة المقاومة يرى نفسه شريكًا في المواجهة». وفي إطار التصدي لمتابعة احتياجات النازحين اليومية، من غذاء ودواء واستشفاء، يشدد شومان على «ان كل ما يلزم العائلة النازحة يتم تقديمه من دون الدخول بالأرقام والتفاصيل لأن ما نقدمه هو لأنفسنا وخاصة في ما يتعلق بالمواجهة مع عدو مجرم. فمن حق أهلنا الذين تركوا بيوتهم في الخطوط الامامية افساحا للمجال امام المجاهدين ان يتم تأمين كل وسائل الراحة لهم». ويشير الى ان الجمعية تتابع شؤون 4000 عائلة تقريباً، و«استطعنا بعد تماس مباشر مع بعض المغتربين، الذين هاجروا بسبب وحشية هذا العدو، ومع المقيمين، من تأمين وحدات سكنية لكثير من العائلات النازحة إلى مناطق الخط الثاني في الجنوب، وقد قدمت لهم مجاناً»، بينما اخرون يتوزعون على شقق سكنية عائدة لأبنائهم او أقاربهم او أبناء المنطقة، «ولولا ثقافة التكافل الاجتماعي للمجتمع الجنوبي لكان الوضع صعباً جداً».
معاناة أهالي الجنوب تستدعي إعادة التذكير بما يُفترض أنه بديهي وهو أن «الجنوب جزء من لبنان»


في السياق نفسه تقدم الجمعية الحليب لـ 2500 طفل شهريا، وأحيانا الملابس الجديدة او حتى المستعملة والجيدة، كما تؤمن لحوالي 850 عائلة صامدة في الخطوط الامامية المساعدات والأدوية، وتمدّهم باللوازم الأساسية لتعزيز صمودهم بالتكافل وبجهود موحدة مع العمل الاجتماعي لحزب الله، «ولن يثنينا العدو بقصفه واجرامه عن الوقوف والتعاون مع أهلنا وتقديم المال والارزاق والارواح» بحسب شومان، لافتاً الى ان العاملين في الجمعية الذين ينقلون المساعدات متطوعون وكثير منهم من النازحين الذين تركوا بيوتهم في القرى الحدودية وهذا المشهد بحد ذاته «بكبّر القلب».

3- ورشة الصمود
جاء عيد الأضحى هذا العام محاصرا بطوق من الازمات الخانقة والحرب الوحشية، مجردا من فرص البهجة والتمنيات، الا ان أهالي الجنوب صامدون، أغلبهم قرر المشاركة بطريقته بالجهاد والصمود. في السوق الشعبي لمدينة النبطية، ازدحام العيد بدا واضحا رغم الاحوال المعيشية المتردية التي أنهكت معظم السكان ورغم الحرب.

انحصر تدخّل الدولة بصرف مبلغ 300 مليار ليرة لبنانية لمجلس الجنوب لدفع تعويضات للمتضرّرين من الحرب

تشتكي لما، صاحبة محل “Je suis LouLou”، من قلة المبيعات وندرة الزبائن في ظل الحرب، لكنها بالتعاون مع المخرج فضل شيت و«المعهد التكنولوجي الدولي» الذي تقدم الدورات للطلاب فيه، سعت لتقديم المساعدة للنازحين عبر «بسطة العيد» في السوق الشعبي أسمتها «ورشة صمود»، عرضت فيها البضائع بأسعار منخفضة جدا، لمساعدة غير القادرين على تحمل التكاليف، وتأكيدا منها على تخفيف الأعباء التي ارهقت النازحين. أضف الى ذلك، ان الهدف من ورشة الصمود زرع المعرفة والمساهمة في تقديم حسومات للتعليم لأي اختصاص في مجال التجميل والإخراج في المعهد الذي تدرب فيه، تشجيعا للشباب الذي خسر معظمهم قدرتهم على متابعة الدراسة في القرى الحدودية. «الناس لازم تقوم ببعضها» في ظل غياب الدولة والظروف الصعبة، لذلك جمعت التبرعات العينية من محلات الألبسة والألعاب وقدمتها في الخيمة كهدايا للأطفال، «اذ لا بد من غرس الفرحة ورسم الابتسامة في وجوههم» بعد كل هذه المعاناة.



تدمير ممنهج في الجنوب
اصبح عدد من الأراضي الجنوبية الحدودية منكوباً بفعل الفوسفور الأبيض المحرم دوليا الذي استخدمه العدو الإسرائيلي منذ بدء الحرب، والذي سينسحب ضرره على السنوات المقبلة، مما سيؤدّي إلى خسائر كبيرة للدخل السنوي للأسر التي تعتمد على الزراعة. وتقدر خسائر القطاع الزراعي في الجنوب بثلاثة مليارات دولار، بسبب «تضرر 8 ملايين متر مربع من الأراضي الزراعية، وفقدان 75% من المزارعين مصدر دخلهم» وفق ما عرضه رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي. كما تأثرت سلاسل التوريد بشكل واسع بسبب الحرب، لا سيّما مصانع منتجات الحليب والإنتاج الحيواني من أبقار وماعز. اذ توقف الإنتاج كلّياً في 12 مصنعاً للألبان والاجبان. وتشير بيانات وزارة الزراعة التي نقلها مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، وبعد انقطاع العديد من المواطنين عن أعمالهم بسبب نزوحهم وفقدان مصدر رزقهم، إلى اقفال 200 مزرعة بشكل تام، وتدمير العدو مئات من مزارع الحيوانات والدواجن، ناهيك عن إغلاق 50 مدرسة في المناطق الحدودية واستبدالها بـ 10 مدارس فقط في أماكن النزوح.