مسلسل انهيار ما تبقى من مؤسسات الدولة مستمرّ. فبالرغم من المساعدات والموارد التي تَمكّن بعض المسؤولين في الدولة تأمينها لتغطية حاجات أساسية، ما زالت النواقص كثيرة وما زال اليأس يتمدّد في نفوس موظفي القطاع العام. وقد لامس سعر الدولار الواحد مقابل العملة المحلية 40 ألف ليرة وارتفعت بالتالي أسعار السلع الغذائية والمحروقات والمواد الاستهلاكية بينما بقيت رواتب الموظفين على حالها. لكن هل تصدّقون أن بعض الموظفين والعسكريين ما زالوا يقومون بواجباتهم الوظيفية بجدية وأخلاق بالرغم من انهيار قيمة رواتبهم؟ في الآتي روايتين بدلالات كثيرة:
في قاعة الانتظار قبيل الدخول إلى اجتماع يتناول المشكلات والتحدّيات المعيشية، قابلت سيدة في العقد السادس من العمر قالت إنها تمثّل وزارة الشؤون الاجتماعية وأخبرتني أن راتبها لا يكفيها لتسديد مصاريف أسرتها الصغيرة وأنها تبحث عن عمل تجني منه راتب بالعملة الأجنبية. بالقرب منها جلست شابة تعمل في احدى المنظمات الدولية. كانت تحمل عدة ملفات بيدها وتستعد لتقديم شرح مستفيض عن برنامج لمكافحة الفقر في لبنان.
لدى انتهاء الاجتماع توجهت إلى الشابة وسألتها عن راتبها بحشرية تخطّت ربما حدود اللياقة. وبعد تردد طويل أعلمتني بقيمة راتبها وتبيّن لي أنه يفوق راتب الموظفة في الشؤون الاجتماعية بأكثر من عشرين مرّة. علماً أن الموظفة الحكومية تعمل في الوزارة منذ نحو خمسة وعشرون عاماً، وقد راكمت خبرة ومعرفة خلال كل هذه السنوات تزيد من أهمية حضورها ومشاركتها ومساهمتها في أي مبادرة أو برنامج لمكافحة الفقر أو لتحسين أوضاع المجتمع. خدمت 25 سنة وراتبها لا يساوي ربع راتب شابة بدأت حياتها المهنية منذ أشهر قليلة في منظمة دولية.

وصلت متأخراً إلى لقاء مع احدى الهيئات الإنسانية في المصيطبة، فركنت السيارة على أحد جوانب جادة سليم سلام. ولدى عودتي إليها اقترب مني شرطي على درّاجة نارية وطلب مني فتح الشباك وقال بتهذيب: "مرحبا أستاذ، إنّ ركن السيارة في هذا المكان مخالف للقانون. لكن لن أعطيك "ظبط" هذه المرة لأنه بيوجّع". نظرت إليه مبتسماً مستغرباً حرصه على عدم إيلام الآخرين فأضاف: "الظبط بميتين ألف ليرة يا أستاذ. انتبه." تابع الشرطي سبيله وبقيت شارداً لبعض الوقت. مئتي ألف ليرة "بتوجّع"، طبعاً "بتوجّع" لمن لا يزيد راتبه عن مليون ونص ليرة. فهل عفى الشرطي عني واكتفى بالإنذار لأن سيارتي متواضعة؟ أم أنه تعامل معي وكأنه يتعامل مع نفسه؟

(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

في ظل انهيار قيمة راتبها، لم تتلكأ الموظفة في وزارة الشؤون الاجتماعية عن القيام بواجبها الوظيفي. شاركت في اجتماع العمل ومثّلت الوزارة خير تمثيل. وكذلك شرطي السير الذي تنبّه لمن خالف القانون وأبلغه الإنذار. بينما كان يمكن للموظفة أن تغيب أو أن تحضر الاجتماع متأخرة عن موعده وأن تبقى صامتة وتتصرف كأن الأمر لا يعنيها بحجة تدني قيمة راتبها. كما كان يمكن للشرطي ألّا يبالي مخالفة قانون السير أو أن يعطي "ظبط" ويعلّقه على واجهة السيارة ويمشي.
لكن أكثر ما استوقفني هو إشارة الشرطي لِما "يوجّع" والسعي لتجنّبه. وكأنه يخاطب نفسه ويعطي لنفسه فرصة ثانية ربما تتحسّن الأحوال. فخيار شلح البدلة العسكرية والبحث عن وظيفة أخرى بعد سنوات من العمل "يوجّع". وبالرغم من كل شيء قد يكون التمسّك بخيط أمل لمستقبل أفضل هو السبيل الوحيد لمن هم أكبر الخاسرين من الانهيار الشامل.