لئن كانت بيروت لا تكف عن إغراء الغرباء، كما يكتب عالم الاجتماع التونسي الطاهر لبيب (1942) في روايته «في انتظار خبر إنّ» الصادرة حديثاً عن «دار محمد علي» و«دار منتدى المعارف»، فليس الأسمر القادم من أرض الزيتون والياسمين بغريب عن مدينة اللعنات الجميلة، بشوارعها المتداخلة بالثقافة، وخبزها المختل بالشعر، وبحرها المحتار بين مبتدأ الحكاية وخبرها الغائب في انفجار: الدكتور في علم الاجتماع من جامعة السوربون في باريس عن أطروحته «سوسيولوجيا الأدب العربي» (1974)، والحاصل على درجة الأستاذية في اللغة والآداب العربية من الجامعة نفسها، لطالما رصد بيروت بعين العاشق والمثقف، منذ انتقل إليها لإدارة «المنظمة العربية للترجمة» لسنوات وتأسيس «الجمعية العربية لعلم الاجتماع». رصد تصبح فيه بيروت أشبه بأنثى لا تعولّ على حبٍ لا تكون قبله وبعده ومعه وفيه، حبّ أقل ما يقال فيه عن سحرها وعن نبض الحياة وخفّة الرّوح فيها بأنّه «تعبير عن تجلّيات فكرتها في الحواسّ الخمس». وجد «الغرامشي التائه» ضالّته في الرواية هذه المرة، ليبوح للمدينة المعشوقة المتمنّعة بحب عضوي لا تخلو فيه جمالية السرد وسيولته من المثاقفة وتذويب الحمولة المعرفية الكبيرة في لغة رشيقة يفهمها الجميع: «ولأنها لا تنفصل عن صورها القديمة فالتعلّق بها هو كالتعلّق بفكرةٍ ثابتة. لها رأس مال رمزي، كما يقال، يجعلك تراها -مهما كانت حالها- مدينةً معطاء، تعطيك ما تملك وما لم تعد تملك». عن روايته الجديدة وبيروت والثقافة والأدب كان هذا الحوار مع الطاهر لبيب
الطاهر لبيب: الفيلسوف كوستارياديس رأى أنّ مرحلتنا هي مرحلة «صعود اللّامعنى»


هل «في انتظار خبر إنّ» رواية أو سيرة ذاتية أو سيرة ثقافية لمدينة كما يراها مثقف؟
- هذا سؤال يجيب عنه النقّاد والعارفون بأصناف السّرد. إذا اعتمدت ما كُتب عن النصّ، حتى الآن، فهو رواية. الاختلاف هو حول ما يتقاطع فيها بين الواقعي والمتخيَّل، وأظنّ أنّ استعمال ضمير المتكلّم ساند، بدرجات متفاوتة، ميلَ البعض إلى الحديث عن «سيرة ذاتيّة» أو «سيرة روائيّة» أو «ما يشبه السيرة الذاتية». قد يكون الأقرب إلى النصّ هو «التخييل الذاتي»، في معنى «الأوتوفيكسيون»، كما رأى بعضهم. ومهما يكن، فلم يخطر في بالي أن أكتب سيرة ذاتية أو غيريّة. الأمكنة والأزمنة وبعض الأحداث الكبرى كالحرب والثورة -وهي موصوفة بتصرّف- هي لتأطير التخيّل بشيء من الواقعيّة. وللمناسبة، فإنّ السّيرة الذاتية، هذا النوع من كتابة الذات، تبدو لي من أصعب ما يُقدم كاتب على كتابته. من منا يكتب، بجمالية عالية، سيرة حياة فيها من الثّراء النادر ما يشدّ اهتمام الناس؟ من منا سارتر ليكتب «الكلمات» أو غارسيا ماركيز ليكتب «عشت لأروي»؟ وأما بيروت فلك أن تكتب تاريخها أو أن تجعلها فضاءً لسردك أو أن تكتب فيها مذكراتك ولكن لا أحد يكتب سيرتها.

تحوّلت من عالم اجتماع، من صاحب «سوسيولوجيا الغزل العربي» إلى روائي. من الواضح في الرواية أنك انتقلت بمقاربة سوسيولوجية للظواهر التي تصفها. كيف ترى، إجمالاً، علاقة الرواية بالمعرفة؟
- لا أتصوّر روائيّاً جيداً من دون رصيد معرفي يعمّق نظرته إلى عناصر روايته. الرّوائي، من دون رصيد معرفي، حكواتي. أقول هذا بوصفي قارئاً تشدّه الرواية إليها بما يتراءى له فيها من «خلفية معرفيّة»، وراء متعة ما يقرأ. أقول: يتراءى لأن الرواية لا تستعرض معارف صاحبها وإنما تضمرها. القول بالتّبسيط، بدءاً بتبسيط اللّغة كي يفهمها الجمهور، هو، في أغلب حالاته، بحث عن الأسهل، ثمّ إن هذا الجمهور يستهلك من المبسَّط ما يكفي قوته اليومي. المستهدفون هم القراء لا الجمهور.

«لستُ إلا واحداً ممن يمدّ بهم الريف المدينة، فلا هم، حقاً، في هذه ولا هم في ذاك». هل لازمك هذا الشعور باﻟ «بيْن بيْن» من طفولة الريف إلى المدن التي عمّقت القلق، من دون الوصول إلى «خبر إنّ»؟
ــ هذا اﻟ«بيْن بيْن» ظاهرة عامة تحدّدها طبيعة العلاقة بين الريف والمدينة في مرحلة تاريخيّة معيّنة. يحضرني ما كتب غرامشي، ابن سردينيا الفقيرة، عن استقطاب رأسمالية الشمال الإيطالي لمثقّفي جنوبها، ولكنّ الفرق هو أنّي لم أنشأ، فكريّاً، في «كتلة» مثقفين ريفيين، لغياب ما يسمح بذلك، بدءاً بانعدام المدارس. تكوّن هذه الكتلة في تونس ظاهرة حديثة، نسبيّاً، مرتبطة بتكاثر المتعلمين وأصحاب الشهادات العاطلين عن العمل الذين أصبحوا قوى احتجاجية في المناطق المحرومة. لم يكن، مسار التكوين، إذاً، يتيح ارتباطاً عضويّاً بفضاء النشأة فبقيت العلاقة به علاقة وجدانية، ويلازمني، إلى اليوم، شعور بالتقصير وبالعجز على ردّ الجميل لهذا الفضاء الذي جئت منه... وأما المدينة فلم أتّخذ فيها مسلك حراكٍ خارج مسالك المهنة. بقيتُ فيها «آفاقيّاً»، كما يقال. فكُّ الارتباط العضوي حوّل اﻟ «بيْن بيْن» إلى ترحال. فكريّاً، لا أتحمّل حصار الاختصاص وأرتاح في مناطق التداخل، وفي هذه المناطق كُتبت الرواية.



«صورة بيروت أغلبها من الشعراء»، وهي «لا تكفّ عن إغراء الغرباء». هي «في خيالي تطير». لماذا تمتلك بيروت هذه السّطوة على المثقفين والكتّاب والشعراء؟
ـــ غرباء بيروت من أهل الفكر والسياسة كانوا فيها بين ملاذٍ وإغراء، وفي الحالتين لم تخلُ بيروت من حميميّة، بعيداً عن سطوة مدن أخرى. الشعراء أوضح مثال: لا أعرف مدينةً عربيةً تغزّل بها الشعراء، من غير أهلها، مثلما تغزّلوا ببيروت. أقول: تغزّلوا ولا أقول مدحوا فمدح المدن، في الأغلب، مدح لحكّامها. تنافس الشعراء في التعبير عن حبهم لبيروت ولا أحد منهم ادّعى أنها أحبّته! بيروت معشوقة متمنّعة. لاحظ أنها، رغم وجود الكثير من شوارعها بلا أسماء، لا تحمل أسماء من أحبّوها من الشعراء، ومنهم قامات عالية. بيروت، في نهاية الأمر، فكرة أكثر مما هي مدينة. ولأنها لا تنفصل عن صورها القديمة، فالتعلّق بها هو كالتعلّق بفكرةٍ ثابتة. لها رأس مال رمزي، كما يقال، يجعلك تراها - مهما كانت حالها- مدينةً معطاء، تعطيك ما تملك وما لم تعد تملك. هي، بالنسبة إلى الشعراء، مدينة تجيد التلقين، تمدّهم بكلمة البدء. سألتُ، مرّةً، محمود درويش، وكنّا في إحدى المدن العربيّة، إن كان يكتب شعراً، فقال إن هناك مدناً لا يُكتب الشعرُ فيها وإنه حالما يكون في بيروت سيكتب.

«المكان الذي تحبّه تدلّك إليه امرأة». بدت هذه الجملة مفتاحيّة لتتماهى بيروت مع المرأة التي ستسكن الرواية في فصول لاحقة. هل هذا الانطباع صحيح؟
ــ الحبّ يلوّن المكان ويثبّته. هو، في الرواية، ينسج نسخةً ملوّنة من بيروت، هي بيروت أخرى غير بيروت الخرائط. لا ينفصل الحبّ عن أمكنته، لذلك نزورها بذكرياته حين ينقطع. ولكثرة ما كرّر المحبّون هذا، أصبح للحبّ أماكن شهيرة. بعض المدن تسمّى مدن الحبّ. لبيروت شيء من هذا، وقد كانت، إلى عهد قريب، أكثر المدن العربيّة إعلاناً عن الحب وعن رسائله فيها. بيروت، في الرواية، مثنّى: هي هما. هناك تماهٍ بينها وبين المحبوبة، حتّى لا واحدة من دون الأخرى. أن تكون امرأةٌ مفتاح مدينة، فهذا يعني أن ما لك أو عليك أن تراه من المدينة هو ما ينفتح لك منها وأنت في حال حبٍّ فتراه كما لم تره من قبل، وقد لا ترى غيره. أراغون يذهب إلى أبعد من هذا في قولٍ تصعب ترجمته: «لا باريس لي إلّا من إلسا».
حركات الإسلام السياسي أفرزت «مثقفاً تقليديّاً» سيتبيّن أنه أكثر عضويّةً من المثقف العضوي


ولكن هذا الحب، رغم قوّته، هزّه تأويلٌ خاطئٌ لمصادفة...
ــ نحن في عالم تفشّى فيه اللامعنى وانفصلت فيه المعاني عن أشيائها أو الأشياء عن معانيها. كثر اللّغو في المشترك من الكلام في لا شيء. فقدان المعنى أو فساده ينفتح فراغه على العبثيّة، في معناها الفلسفي الوجودي. الحب، كقيمة إنسانية وكفعل علائقي هو لمواجهة هذه العبثيّة، ومن ورائها بشاعة العالم. قد يهتزّ، كما هزّته، في آخر الرواية، عبثيّة صدفة هي نفسها من تجليّات سياق عبثي أوسع. مشاهد العبث العربي التي أصفها لها بعدٌ تراجيدو-كوميدي يوحي بالسعادة. هي مشاهد، وبخاصة السياسية منها، تجعل كامو على حقّ حين افترض أن يكون سيزيف سعيداً. سيزيف العرب سعيد، دائماً. نعم، لقد أصبح علينا، حتّى في الحبّ، أن نبحث عن المعنى حيث لا معنى. الفيلسوف كوستارياديس رأى مرحلتنا مرحلة «صعود اللّامعنى»، وليس من المصادفة أن يعنْون كونديرا آخر رواياته «حفل اللامعنى».

«البحث عن معنى، ذلك الذي يصعد بك الحبّ إليه». وأما الرغبة «فهي على قارعة الطريق، أفقيّةٌ، لا تحتاج إلى صعود». لو وضّحت لنا أكثر هذا القول؟
ــ الحبّ، في معناه الواسع، أو المحبّة، يضفي على موضوعه، أي المحبوب، معنىً يصعد به إلى حيث يراه كما يتمثّله وكما يريده أن يكون. وأما الرّغبة فكلّ ما تتطلّبه تحويلُ الموضوع القابل للرغبة إلى مرغوب فيه، فعلاً. العلاقة بين الحبّ والرّغبة هي علاقة اختلاف وتقاطع، وقد تكون علاقة تطابق، كما يريدها من يتشكّى فيقول، مثلاً: أرغب ولكن لا أحب أو أحب ولكن لا أرغب. إنها علاقة صعب على التحليل النفسي البتّ فيها، وإن اشتهرت بعض مقولاته، ومنها قول فرويد: «حيث يحبّون هم لا يرغبون، وحيث يرغبون لا يستطيعون أن يحبّوا». المقاربة السوسيولوجيّة، وهي مختلفة، يهمّها الفصل الحادّ، في المجتمع العربي، بين الحب والرغبة. فصل هو، عمليّاً، لصالح الجنس وضدّ الحبّ. هناك، عمليّاً، إباحة للجنس ومنع للحبّ. الجنس مراقب كما تراقب أي سلعة في مجتمع استهلاكي، وأما الحبّ فممنوعٌ لخروجه عن الرقابة.

حرب تموز أوجدت نصراً رادعاً هو بمثابة رأس مال رمزي قرأه اللبنانيون قراءات متنوّعة واختلفوا في تقدير ثمنه


«قد أرتاح في كل هذه الحالات ما عدا واحدة: أن أكون كلَّ النّساء في امرأة. في هذا من الذكوريّة المضمرة أكثر مما فيه من الإعجاب بامرأة. هل سمعت امرأة تقول لرجل: أنا كلّ الرجال في رجل؟». هكذا علّقت الحبيبة على أوصافها في النصّ. في «سوسيولوجيا الغزل العربي» إعجابٌ ضمني بغزلٍ يعبّر عن رؤية جماعيّة للعالم. كيف تراجع هذا الغزل؟
ــ أجاد العرب غزلهم في فترات مدّهم الحضاري. في قرون تراجعهم، تراجع الغزل وتحوّل من الشّعر إلى النّثر في المصنّفات، ثم إلى التقليد والتكرار. مع ما سمّي نهضة عربيّة، عاد الغزل إلى الشّعر، منمّقاً، قبل أن ينبض في ما اعتُبِر شعراً حديثاً، بدءاً من الخمسينيات، حيث اعتمد الغزل لغةً وإيقاعاً وصوراً جديدة وطغت ظاهرة نزار قباني. وازى هذا بروز أسماء نسائية مهمّة، شعراً ونثراً. ففي العدد الأول من «مجلة شعر» (1957) شاعرتان. وفي عام 1958 صدرت رواية «أنا أحيا» لليلى بعلبكي. في فترات لاحقة، تغزّل الشعراء بالأوطان والزعماء. لست مؤرخ أدب ولكنّ انطباعي بأن العقود الأخيرة أعادت الغزل إلى النّثر. وإذا صحّ أننا في زمن الرواية -وأفضّل القول بأننا في زمن السّرد، والرواية نوع منه- فإن هذه العودة أنتجت ما يمكن تسميته الغزل الروائي. وسواء كان الغزل شعراً أو نثراً، فهو يواجه، اليوم، رقابة بعضها لم يكن موجوداً، كما يواجه لغواً من نوع تواصلي لا رادّ له. وراء الغزل حبٌّ يبدو أنه يحتاج إلى «إعادة اختراع»، كما نادى بذلك رامبو وردّد، بعده، آخرون.

«نحن اللبنانيون نحبّ بلادنا قتلاً ونقتلها حباً». «نحن نُرقّص الموت». هذا ما قالته الفتاة ذات «الفراشة بجناح واحد». ما رأيك في جدلية الحبّ والموت هذه؟
ـــ لو تعسّفنا على فرويد ونقلنا، من الفردي إلى الجماعي، أسطورتَي ايروس وثاناتوس اللتين استثمرهما في تحليله، لقلنا إنّ بيروت تستبطن صراع نزعتَي الحب والموت، لا أدري منذ متى. قد يصح هذا على كلّ المدن كما يصح على كلّ الأفراد، ولكن العلاقة بين النّزعتين، في بيروت وفي لبنان عموماً، تبدو بلا وسائط فاصلة، لا سياسيّة ولا قانونية ولا حتى دينيّة أخلاقية لأن الطوائف نفسها طرف في الصراع. لهذا لا يُستغرب أن يقال إن اللبناني يحب بلده قتلاً ويقتله حبّاً. لكأنّ هناك تواطؤاً بين الحب والموت، كما هو، إجمالاً، بين الحبّ والكره، ولكنّ شغف الحياة يضع على أوجه الموت أقنعة. تحويل الدمار إلى مادّة فنيّة أو الفرح العابر في سهرات مار مخايل، مثلاً، هما من هذه الأقنعة.

وصفتَ بعين السوسيولوجي المتفحّص الكثير من دقائق الوضع الطائفي والسياسي اللبناني: «إن عرفتَ قاتلاً أشار إلى قاتل»، «لا تستبعدْ أن تحمل الطوائف، يوماً، ساعاتٍ أوقاتُها مختلفة». هل كانت نهضة بيروت نهضة صالونات وكتب، بينما كان الواقع ينتج النقيض؟
ـــ النهضة، في فكرنا العربي، نهضة فكريّة، أساسيّاً، في حين أنها، في الواقع التاريخي، نهضات متوازية في مجالات مختلفة، تتساند وتتكامل في مجتمع ينهض، حقّاً. النهضة في مجتمع متقدم تحوّل الأفكار الكبيرة إلى قوّة تغييريّة فاعلة. هي أوسع وأشمل مما نراه من تحديثٍ بلا حداثة. المشكلة في العالم العربي، ومنه لبنان، ليس في غياب الأفكار والمشاريع النهضويّة المصاغة، فكريّاً، وإنما هي أن تكون هذه الأفكار والمشاريع محاصرة في ثقافة ترفض، بتبريرات متنوّعة، أبعاداً وظواهر ملازمة، عادةً، لنهضة شاملة، وفي الوقت نفسه هي ثقافة غير قادرة، حتى الآن، على إنتاج بديل نهضوي قابل للحياة. وأما بيروت فقد أنتجت أفكاراً كبيرة، لها ولغيرها، ولها خميرة نهضةٍ كامنة فيها، ولكن بعض عراقيل نهضتها أكثر تعقيداً مما هي عليه في مدن عربية أخرى.

أجاد العرب غزلهم في فترات مدّهم الحضاري. في قرون تراجعهم، تراجع الغزل


من الندوة المملّة التي تستعملها كمنطلق للفلاشباك في النص، إلى قصّة الذبابة الشّبيهة بالمفهوم والقاموس الانتهازي للأحزاب الحاكمة وغيرها، يبدو من عرّفنا بغرامشي وركّز على مفهوم «المثقف العضوي» قانطاً من السياسة وخطاباتها وآفاقها في واقع العرب إلى حد السّأم...
ــ الجواب في السؤال. أنا من جيل سرديّات كبرى تلاشت في واقع لئيم. وبما أنك ذكرت غرامشي، سأتّخذه مثالاً لما يصيب الأفكار الكبرى في الواقع العربي. إجمالاً، ومن دون الدخول في التفاصيل، ظهر غرامشي في الخطاب العربي، بعد هزيمة 67، في صورتَي «مناضل» في المشرق و «مثقّف» في المغرب العربي، وفي الحالتين كانت عضوية المثقف مركز التفكير في السبعينيات. لم نتنبّه، بما يكفي، إلى أن حركات الإسلام السياسي كانت تفرز «مثقفاً تقليديّاً» سيتبيّن أنه أكثر عضويّةً من المثقف العضوي. في الثمانينيات، كان الاهتمام بالمجتمع المدني. نظرتنا الثقافية إليه فصلته عن المجتمع السياسي. لم نتنبّه إلى أن من يبقى نشاطهم في مستوى المجتمع المدني، من دون نشاط سياسي، يبقون تابعين أو «سوبالتارْن»، كما يقول غرامشي. الاستنجاد بغرامشي، عندما حدث ما حدث في الربيع العربي بفصوله القاسية، كان، بصورة خاصة، لمعرفة ما يمنع الشرائح الاجتماعية التابعة أو «السوبالترْن» من مواصلة ما بدأته من تحرّك، بقطع النظر عن تسميته. القنوط أمام ظواهر مماثلة يمكن أن يفضي، في نهاية الأمر، إلى سؤال أوسع: ما الذي يجعل شعباً يعيد إنتاج اضطهاده، ولو في انتخابات يقال له إنّها «نزيهة وشفّافة»؟

وصفتَ حرب تموز وانقسام اللبنانيين حولها. من أي زاوية قرأتها، وهل تبدو المسافة إلى فلسطين، من بعدها، أقرب أو أبعد؟
ـــ اعتاد عرب الأزمنة الأخيرة أن لا ينتصر العربي إلّا على «شقيق»، وأما السّلم فلاستبطان الهزيمة. حرب تموز أوجدت نصراً رادعاً هو بمثابة رأس مال رمزي قرأه اللبنانيون قراءات متنوّعة واختلفوا في تقدير ثمنه، بحكم تركيبة المجتمع اللبناني المعقدة. في الحرب الأهلية، انتصر الجميع ولم ينتصر أحد أو انهزم الجميع ولم ينهزم أحد. في حرب تموز، لم يتساوَ الجميع في توزيع نصرها وثمنها. خارج لبنان، في البلدان العربية الأخرى، وبقطع النظر عن مواقف الأنظمة السياسيّة، فاجأت الحرب عامّةَ الناس بتلبية حاجتهم الدّفينة إلى نصرٍ على إسرائيل. وأما في فلسطين، فمن الطبيعي أن تستثمر المقاومة هذا النصر، في وقت أصبح فيه «الصراع العربي الإسرائيلي» «صراعاً فلسطينيّاً إسرائيليّاً» وتعدّدت فيه وتعرّجت المسافات العربية إلى فلسطين، واستنزفت الأنظمة السياسيّة «القضية» في مصالحها، مدّعيةً أنّها «قضيّتنا الكبرى». لا أتصوّر أنّ رجلاً سياسيّاً عربيّاً واحداً لا يدرك، بوصفه إنساناً، وبقطع النظر عن الانتماء، أن هناك احتلالاً يرتكب الجرائم في فلسطين، ولذلك، ومهما كانت دوافع الخذلان، لا أرى قضيّةً جرّدت السياسة العربية من النّزعة الإنسانيّة والأخلاقيّة أكثر مما جرّدتها منها القضية الفلسطينيّة.

«الثورة كالحب، لا يكفي أن نشعلها. يجب أن نعرف كيف نحافظ عليها». أين صارت الثورة في تونس؟
ـــ ما حدث في تونس ثورة، وهكذا سمّاها فاعلوها. هذه الثورة واجهت، منذ بدايتها، مفارقات الثورة، وخصوصاً تلك التي تفرزها المجتمعات العربية الإسلاميّة. الثورة التي هي تغيير يحدث قطيعة استقطبتها ماضويّتان، واحدة سياسيّة والأخرى دينيّة. وكما يحدث في الثورات أيضاً، أفرز المجتمع أنبل ما فيه وكذلك أسوأ ما فيه، وهي معادلة صعبة، لولاها لنجحت كلّ الثورات: من جهة، خلّص المواطن الكلمة، وبالتالي المعنى، من ملكيّة السلطة الحصريّة، ومن جهة أخرى ارتباكٌ وخيبة انتظارات. ورغم هذا، فالمحصّلة هي تحريك التاريخ، كما يقال. ومن حسن حظّ تونس أن القوى المعرقلة لهذا التحريك محدودة نسبيّاً، على الأقل في الداخل، مقارنةً ببلدان عربيّة أخرى، كما أنّ للمجتمع المدني تاريخاً وحيويّة. قد يتباطأ إيقاع التغيير ولكنّ أيّ انتكاسة لا أراها إلا عابرة. هناك انطباع، أحياناً، بأننا قمنا بثورة لم نعرف ما نفعل بها، حتّى الآن، لكنّي أميل، حدساً أو أملاً، إلى اعتبار أنّ ما جعل الثورة ممكنة في تونس يمكن أن يفعّلها، في مدى أطول.

في الرواية شاعران، أحدهما في تونس والآخر في شارع الحمرا في بيروت تعود إليهما مراراً في السرد، استئناساً بآرائهما في قضايا الكتابة والحب وغيرها. هل الشاعر هو القابض على المعنى في المدينة؟
ــ في دراساته السوسيوأدبيّة يميّز لوسيان غولدمان، انطلاقاً من ماركس ولوكاتش، بين الوعي التجريبي والوعي الممكن. كان هذا التمييز حاضراً في ذهني. الوعي التجريبي هو ما تُحيل إليه، في الرواية، مشاهد عبثيّة كثيرة، فاقدة للمعنى، ذات آفاق مسدودة، بلا حلول أو ذات حلول زائفة، ومع ذلك يتكيّف معها أو يستسلم لها الأفراد والجماعات. هو، إذاً، وعي مرتبط بالواقع ولكنه بلا قدرة على التجاوز. الشاعر يرمز إلى هذه القدرة التجاوزيّة المفقودة. له حدس الممكن والقدرة على إضفاء الجمال على ما ليس بعدُ. في تونس، يشتمّ الشاعر رائحة ثورة آتية كما تُشتمّ رائحة مطر ينزل في أرض عطشى بعيدة، وفي بيروت يشدّ الشاعر بيروت إلى ممكناتها، فيراها «تعود»، رغم يأس كثيرين منها. بيروته «حتى في الموت لا تموت».

هل من كلمة أخيرة؟
ـــ الكلمة الأخيرة هي الأولى في الرواية، وهي لكونفوشيوس: «لو كان لي الحكم لبدأتُ بإعادة المعنى إلى الكلمات».