اختيار وتنسيق: محمد ناصر الدينلا يزال أدب الفجيعة والرثاء والتفجّع على الموتى ولا سيما الأبطال والفرسان منهم يُلهب مخيلة شعوب الأرض قاطبة، ويغني فولكلورها وتراثها وطقوسها، من الملاحظة المفتاحية لهيرودوت في كتابه «وصف مصر»: «أما كيف يقيمون (أي المصريون) الاحتفال لإيزيس في مدينة فوسيريس فتراهم جميعاً رجالاً ونساءً يضربون صدورهم بعد أن يقدموا الأضحية تعبيراً عن الحزن، وهم يكونون عشرات الآلاف من البشر، أما من أجل منْ يضربون صدورهم فإنه يكون من غير اللائق أن أقوله. أما الغرباء فإن هؤلاء يفعلون أشياء أكثر من ذلك حيث أنهم يجرحون جباههم بالسكاكين»، مروراً برثاء كلكامش لصديقه انكيدو في الملحمة السومرية الخالدة، ومراثي هيكتور في الإلياذة، وشعر الفجيعة في الأدب العربي الجاهلي والإسلامي، وليس أخيراً الشجن الكربلائي وطقوسه التي يقول فيها الباحث العراقي فاضل الربيعي في كتابه «المناحة العظيمة»: «كما يعلمنا التاريخ، فإن طقوس البكاء القديمة هذه، المستمرة والمتوارثة، كانت تأخذ طابع الحزن الشديد على الإله الشهيد تموز في كل أرجاء الإمبراطورية، وحيث انتشرت بيوت البكاء التي تُروى فيها قصة استشهاده البطولي. والمثير للاهتمام في نطاق هذه الفكرة، أن مجالس العزاء الحسينية التي ظهرت في العراق الحديث، سوف تتبدى في مرآة التاريخ، امتداداً ثقافياً لبيوت البكاء القديمة على تموز». نستعرض في هذا الملف أدب المناحة العظيمة ونكتشف الخيط اللاقط الذي يجمع أحزان البشر على اختلاف ثقافاتهم ودياناتهم، حيث «كل امرئ يبكي شجوه، ونام الخلي عن بكاء الشجيّ»

عباس الموسوي ــ «معركة كربلاء» (نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ــ زيت على كانفاس ــ 175.4 × 341.6 × 5.7 سنتم) متحف بروكلين


نواح إيزيس على أوزيريس
تعال إلى بيتك/ أنت يا من لم يعد له أعداء/ أيها اليافع الجميل/ تعال إلى بيتك لكي تراني/ أنا أختك التي تحبها/ لا تبتعد عني أيها اليافع الجميل/أنا لا أراك/ ومع ذلك قلبي يصبو إلى لقياك/وعيناي تلتمسان رؤياك/ما أروع أن أتأملك/ تعال إلى من تحب/ أنت يا من لم يعد قلبه يخفق/ لا تبتعد عني/ الآلهة والناس اتجهوا بوجوههم نحوك/ وكلهم يبكونك معاً لأنهم يرونني/ أناديك وأبكيك بحرقة/ حتى أنه (بكائي) يُسمع في السماء/ ولكن ألا تسمع صوتي؟/ أنا أختك التي كنت تحبها في الأرض/ وما كنت تحب أي امرأة سواي/ أنت يا من أحببت الضوء/ لا تذهب في الظلام/ أنت يا من أحببت صخب الحياة ونزقها/ لا تذهب للعزلة يا أخي/ آه يا أخي.
(المصدر: بردية مصرية فرعونية في متحف برلين)


رثاء كلكامش لصديقه أنكيدو

يا أنكيدو إنّ أمك ظبية وأبوك حمار الوحش،
وقد رُبيتَ على رضاع لبن الحمر الوحشية
لتندبكَ المسالك التي سلكتها في غابة الأرز
وعسى ألا يبطل النواح عليك ليل نهار
وليبكك شيوخ أوروك، ذات الأسواق
وليبكك الإصبع الذي أشار إلينا من ورائنا وبارَكنا
فيرجع صدى البكاء في الأرياف
وليندبك الدب والضبع والنمر والفهد والأيل والسبع
والعجول والظباء وكل حيوان البرية
ليندبك نهر «أولا» الذي مشينا على ضفافه
وليبكك الفرات الطاهر الذي كنا نسقي منه
لينحْ عليك محاربو أوروك ذات الأسوار
ولينُح عليك من أطعمك بالغلّة
ومن مسح ظهرك بالزيت المعطر ومن سقاك الجعة
ولتبكِكَ الزوجة التي اخترتها
وليبكِ عليك الإخوة والأخوات.
(المصدر: ملحمة كلكامش، ترجمة طه باقر)
هيلين ترثي هكتور في الإلياذة

وتظهر بعد ذلك هيلين غارقةً في أحزانها
وتسيل الدموع حرّى مدرارة من عينيها الباهرتين
كحبات من اللؤلؤ المنثور، وتصيح مولولة:
واه يا أعزّ صديق، يا من حبَتك الآلهة
بأنبل خلُق وأرجح عقل وأشجع سيف
الآن وقد مضت في التعاسة عشر سنوات
منذ أن أتى بي باريس إلى شواطئ طروادة
يا ليتني متّ قبل أن تحملَ تلك الروح القدسية
على إغواء قلبي السهل الرقيق
كلماتك الرقيقة بلسمُ لجرحي، من أجلك أنا حزينة
ولفقدك أرثي لحالي، أنا السبب في المآسي كلها
للمصير الذي صرنا إليه حين يبكيني للأبد
الآن وبعد رحيلك لم يبقَ صديق لهيلين
سأظلّ أجوب شوارع طروادة الواسعة هائمة منبوذة
إذ يهجرني أهلها كما يمقتني بنو أمّي.
(المصدر: «مسارات الأدب الغربي من هوميروس إلى عصر النهضة» لأحمد فقيه)

مجالس العزاء الحسينية التي ظهرت في العراق الحديث، سوف تتبدى في مرآة التاريخ، امتداداً ثقافياً لبيوت البكاء القديمة على تموز (فاضل الربيعي)


نواح الأصنام على الإله تموز
وقد ادعى أهل زمان بنبوشاذ أن جميع سكاين الآلهة والأصنام ناحت على بنبوشاذ بعد موته، كما ناحت المليكة والسكاين كلها على تموزي، وأن الأصنام، زعموا، اجتمعت من جميع أقطار الأرض إلى بيت الأشكول ببابل فقصدوا كلّهم هيكل الشمس إلى صنم الذهب الأعظم المعلق بين السماء والأرض، خاصّة وأن صنم الشمس قام وسط الهيكل وقامت أصنام الأرض كلها حوله، أولها ممّا يليه أصنام الشمس في جميع البلدان، ثم أصنام القمر، ثم أصنام المريخ، ثم أصنام عطارد، ثم أصنام المشتري، ثم أصنام الزهرة، ثم أصنام زحل، فجعل صنم الشمس ينوح على تموزي والأصنام تبكي، وصنم الشمس يعدد على تموزي ويذكر شرح قصته، والأصنام تبكي كلها منذ غروب الشمس إلى طلوعها آخر تلك الليلة، ثم طارت الأصنام راجعة إلى بلدانها، وأن صنم تهامة المسمّى نسراً، عيناه تدمعان وتجريان الدهر كله وإلى الأبد منذ تلك الليلة.
(المصدر: كتاب «الفلاحة النبطية» لابن وحشية النبطي)

رثاء سياوخش في الشاهنامة
وأما أنا فستُقطع رأسي بغير جُرم، ويراق دمي بلا ذنب. فأغادر على الأرض طريحاً بلا تابوت ولا كفن، غريباً عن الأهل والوطن، ثم (مخاطباً زوجته) حرس أفرساياب ويخرجونك حافية حاسرة (...) ثم أمر أفرساياب بوضع السيف في أصحاب سياوخش، فاشتعلت بينهم نار الحرب في ذلك الفضاء، وتواردوا حياض الموت توارد الإبل في مشارع الماء، وكان الإيرانيون زهاء ألف فارس فقتلوا خلقاً كثيراً من الأتراك حتى صار الأمر إمرا، وغمرتهم أمواج الفناء غمراً. وجُرح سياوخش في مواضع عدة من بدنه، وفارق ظهر فرسه، وقاتل ساعة راجلاً. ثم أسروه وأتاه رجل من الأعداء فشدّ عليه، ووضع غلّاً على عنقه. فساروا بالشاب الغرير راجلاً، ولم يراقبوا الله فيه آجلاً ولا عاجلاً، وتوجهوا به نحو مدينته التي بناها. فأمر به أفرساياب أن يعدلوا به عن الطريق إلى سفح بعض الجبال ويقطعوا هناك رأسه، ...فبينا هو كذلك جاءت ابنته مضرّجة الوجنات بنجيع العبرات، فأجهشت إليه بالبكاء والعويل وقالت: أيها الملك، إن سياوخش هاجر من أجلك أباه، وترك من ربّاه، وفارق دياره، وباعد أشياعه وأنصاره، واتّخذك ملاذاً ومفزعا، فما الذي صيّرك بإراقة دمه مولعاً؟ لكنه استولت عليه القسوة، فأمر أن يضجعوه على التراب، وذبحوه بخنجر تناوله الجلاد في طشت من الذهب. قال صاحب الكتاب: وإنهم لمّا سكبوا دمه نبت منه النبت المعروف الذي يسميه العجم بخون سياوشان. وهو الذي يسمى في بلاد العرب دم الأخوين. وهو الآن يُجلب إلى أطراف البلاد من ذلك المكان.
(المصدر: كتاب «الشاهنامة» للفردوسي، ترجمة الفتح بن علي البنداري)


مواضع النياحة في جزيرة العرب
مواضع النياحة على الموتى: خيوان ونجران والجوف وصعدة وأعراض نجد ومأرب وجميع بلد مذحج. فأما خيوان فإن الرجل المنظور منهم لا يزال يُناح إذا مات، إلا أن يموت مثله، فيتصل النواح على الأول بالنواح على الآخر، وتكون النياحة بشعرٍ خفيف تلحّنه النساء، ويتخالسنه وهنّ يصحن على الرجال من الموالي، لحون غير ذلك عجيبة التراجيع بين الرجال والنساء.
(المصدر: صفة جزيرة العرب للهمداني).


خبر مصرع كليب بن وائل ونعي أخيه المهلهل له
وكانت بنو جشم وبنو شيبان في دار واحدة بتهامة، وكان كليب بن وائل قد تزوّج جليلة بنت مرة بن ذهل بن شيبان، وأخوها جساس بن مرة، وكانت البسوس بنت منقذ التميمية خالة جساس بن مرة، وكانت نازلة في بني شيبان مجاورة لجساس، وكان لها ناقة يقال لها سراب، ولها تقول العرب: أشأم من سراب، وأشأم من البسوس! فمرّت إبل لكليب بسراب ناقة البسوس، وهي معقولة بفناء بيتها، جوار جساس بن مرة، فلما رأت سراب الإبل نازعت عقالها حتى قطعته، وتبعت الإبل واختلطت بها، حتى انتهت إلى كليب وهو على الحوض، معه قوس وكنانة، فلما رآها أنكرها، فانتزع لها سهماً فخرم ضرعها فنفرت الناقة وهي ترغو، فلما رأتها البسوس قذفت خمارها عن رأسها وصاحت: واذلّاه! واجاراه! واخرجت. فأحمست جسّاسا، فركب فرساً له مغروراً به، فأخذ آلته، وتبعه عمرو بن الحارث بن ذهل بن شيبان على فرسه، ومعه رمحه، حتى دخلا على كليب الحمى، فقال له: يا أبا الماجدة، عمدت إلى ناقة جارتي، فعقرتها! فقال له: أتراك مانعي أن أذبّ عن حماي؟ فأحمسه الغضب، فطعنه جساس فقصم صلبه، وطعنه عمرو ابن الحارث من خلفه فقطع قطنه، فوقع كليب وهو يفحص برجله، قال لجساس: أغثني بشربة من ماء... فلما قتل كليب ارتحلت بنو شيبان حتى نزلوا بماء يقال له النّهيّ، وتشمر المهلهل أخو كليب- واسمه عدي بن ربيعة، وإنما قيل المهلهل لأنه أوّل من هلهل الشعر، أي أرقّه- واستعدّ لحرب بكر، وترك النساء والغزل، وحرّم القمار والشراب، وجمع إليه قومه، فأرسل رجلاً منهم إلى بني شيبان يعذر إليهم فيما وقع من الأمر (...) وقال المهلهل يرثي كليباً:
بتّ ليلي بالأنعمين طويلا ... أرقب النجم ساهراً أن يزولا
كيف أهدأ ولا يزال قتيل ... من بني وائل ينسّي قتيلا
غيّبت دارنا تهامة في الده ... ر وفيها بنو معدّ حلولا
فتساقوا كأساً أمرّت عليهم ... بينهم يقتل العزيز الذليلا
فصبحنا بني لجيم بضرب ... يترك الهام وقعه معلولا
لم يطيقوا أن ينزلوا ونزلنا ... وأخو الحرب من أطاق النزولا
قتلوا ربّهم كليباً سفاها ... ثم قالوا ما إن نخاف عويلا
كذبوا والحرام والحلّ حتى ... يسلب الخدر بيضه المحجولا
ويموت الجنين في عاطف الرح ... م ونروي رماحنا والخيولا
(المصدر: «العقد الفريد» لابن عبد ربه الأندلسي)


رثاء متمم بن نويرة لأخيه مالك
وأما متمم (بن نويرة) فلم يختلف في إسلامه. كان شاعراً محسناً، لم يقل أحد مثل شعره في المراثي التي رثى بها أخاه مالكاً، وكان أعور، قيل: إنه بكي على أخيه حتى دمعت عينه العوراء. وقدم متمم بن نويرة على أبي بكر يطلب بدم أخيه ويسأله أن يرد عليهم سبيهم، فأمر أبو بكر برد السبي وودّى مالكاً من بيت المال. ولما قدم على عمر قال له: ما بلغ بك الوجد على أخيك؟ قال: بكيته حولاً حتى أسعدت عيني الذاهبة عيني الصحيحة، وما رأيت ناراً قط، إلا كدت أنقطع أسفاً عليه لأنه كان يوقد ناره إلى الصبح مخافة أن يأتيه ضيف ولا يعرف مكانه. قال: فصفه لي. قال: كان يركب الفرس الحرون، ويقود الجمل الثقال وهو بين المزادتين النضوختين في الليلة القرة وعليه شملة فلوت، معتقلاً رمحاً خطلاً، فيسري ليلته ثم يصبح، وكأن وجهه فلقة قمر. قال: أنشدني بعض ما قلت فيه. فأنشده مرثيته التي يقول فيها:
وكنا كندماني جذيمة حقبةً.. من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكاً.. لطول اجتماعٍ لم نبت ليلةً معا
فقال عمر: لو كنت أقول الشعر لرثيت أخي زيداً. فقال متمم: ولا سواء يا أمير المؤمنين، لو كان أخي صرع مصرع أخيك لما بكيته. فقال عمر: ما عزاني أحد بأحسن مما عزيتني به.
(المصدر: «كتاب المختصر في تاريخ البشر»، لإسماعيل أبي الفداء)

رثاء الخنساء لأخيها صخر
قالت الخنساء ترثي أخاها صخراً:
ألا يا صخر إن أبكيت عيني
لقد أضحكتني دهراً طويلا
دفعت بك الجليل وأنت حيٌّ
فمن ذا يدفع الخطْب الجليلا
إذا قبح البكاء على قتيلٍ
رأيت بكاءك الحسَن الجميلا
وقيل إنها ظلت تبكي حتى أدركت الإسلام، فأقبل بها بنو عمها إلى عمر بن الخطاب، وهي عجوز كبيرة فقالوا: يا أمير المؤمنين، هذه الخنساء قد قرحت مآقيها من البكاء في الجاهلية والإسلام، فلو نهيتها لرجونا أن تنتهي. فقال لها عمر: اتقي اللّه وأيقني بالموت، فقالت: أنا أبكي أبي وخيريْ مضر: صخراً ومعاوية. وإني لموقنة بالموت، فقال عمر: أتبكين عليهم وقد صاروا جمرة في النار؟ فقالت: ذاك أشد لبكائي عليهم؛ فكأن عمر رقّ لها، فقال: خلوا عجوزكم لا أبا لكم فكل امرئ يبكي شجوه، ونام الخلي عن بكاء الشجيّ.
(المصدر: الوافي بالوفيات للصفدي)

رؤيا الطائر عند عمرو بن الطفيل
رأيت رؤيا فقلت لأصحابي إني رأيت رؤيا عبروها، قالوا: وما رأيت؟ قلت، رأيتُ رأسي حلق وأنه خرج من فمي طائر وأن امرأة لقيتني وأدخلتني في فرجها، وكان ابني يطلبني طلباً حثيثاً، فحيل بيني وبينه. قالوا: خيراً فقال: أما أنا واللّه فقد أوّلتها. أما حلق رأسي فقطعهُ، وأما الطائر فروحي، وأما المرأة التي أدخلتني في فرجها فالأرض، تحفر لي وأدفن فيها، فقد رجوت أن أقتل شهيداً، وأما طلب ابني إياي فلا أراه، إلا سيغدو في طلب الشهادة ولا أراه يلحق بسفرنا هذا فقتل الطفيل شهيداً يوم اليمامة وجرح ابنه ثم قتل باليرموك بعد ذلك.
(المصدر: «الاستيعاب في معرفة الأصحاب» لابن عبد البرّ)
ما جرى على الحسين بن علي وفرسه «الميمون» في كربلاء
لما صُرع الحسين، انطلق الفرس متوحشاً ويصهل صهيلاً عالياً ويدور حوله ويلطخ ناصيته بدمه، وهو يحامي عن الحسين ويثب على الفارس فيخبطه على سرجه ويدوسه. فصاح ابن سعد: دونكم الفرس، فإنه من جياد خيل رسول الله، فأحاطت به الخيل، فجعل يرمح برجليه فقال ابن سعد: دعوه لننظر ما يصنع، فلما أمن الطلب، أقبل نحو الحسين ثانية يمرغ ناصيته بدمه ويشمه ويصهل صهيلاً عالياً. قال الإمام أبو جعفر «كان يقول: الظليمة الظليمة، من أمة قتلت ابن بنت نبيّها»
وتوجه نحو المخيم بذلك الصهيل ويضرب برأسه عند الخيمة، وقد ملأ البيداء صهيلا، فتيقن النساء أن الحسين قد قتل، ولما سمعت سكينة صهيل فرس أبيها، فخرجت تستقبله لعله أتاها بالماء، فرأت الجوادَ عارياً ورأسه ملطخاً بالدم والسرج خالياً من راكبه صاحت: «قُتل والله أبي الحسين»، ورفعت صوتها بالبكاء أخذت ترثيه بهذه الأبيات:
أميمون أشفيت العدى من وليّنا * وألقيته بين الأعادي مجدّلا
أميمون ارجع لا تطيل خطابنا * فإن عدت ترجو عندنا وتؤملا
ولما توجه ذو الجناح إلى المخيم، خرجت النساء من الخدور، فواحدة تقول: «أيها الجواد، أين رميت بالحسين؟»، وأخرى تقول: «لمَ أخذت الحسين إلى الأعداء؟ نادته زينب: «واه، أرى وجهك الملطخ بالدماء»، ونادت سكينة: «يا جواد، هل سقي أبي أم قتل عطشانا؟». روى البعض: أقبل الفرس يركض نحو خيمة النساء، وهو يصهل ويضرب برأسه الأرض عند الخيمة، حتى مات ونقل بعض آخر: فرّ الفرس من عند النساء متوحشاً، حتى ألقى بنفسه في الفرات، ولم يعثر له بعد ذلك من أثر.
(المصدر: كتاب «تذكرة الشهداء» لحبيب الله الكاشاني)

مرثية شعبية من السيرة الهلالية
«فلما فرغ من كلامه التقوا الفارسين في حرب وصدام، وساروا في حرب شديد يفتك زرد الحديد، فانفك عزم الزناتي من شدة حربه، فولى هارب وللنجاة طالب، وحكم ضربه نحو جناين الورد، وكان الخطيب كان من بين السجايا وماسك الرمح بيده، وإذا بالزناتي والخفاجي لاحقه، فطلع الخطيب طعن الخفاجي بين كتفيه، خرج يلمع من لوحيه، فرماه قتيل، وفي دمه جديل، فغار الفريقين والتحموا الطائفتين، وصاح على رؤوسهم غراب بالرمح أصاب الجواد ورماه على الأرض، فرد الزناتي إليه، وخلصه من بين يديه، وركب الجواد، ولا زال بينهم القتال حتى ولى النهار، فانفصلوا عن القتال، وامتلأت الأرض من القتلى، وأخذ الظريف خفاجي عامر إلى بيته ومدده، فأشاد يقول:
يقول الفتى ملك العراق العامر
سهم المنية على الرجال بيدور
شبّهت نفسي كسفينة صغيرة
في بحر طامي وماؤه معكور
موجة تعلى بي وموجة تحطّ بي
وبحر النّيا ظلمة وماؤه عكور
طاطي لي يا وزّ العراق لما أقول لك
ياللي عالغربة تِبان صبور
يا وزّ ادلّك عن أماير بلادي
مدينة ومن خلف المدينة سور
يا وزّ سلّم يمّ أمّي، وقل لها:
جملِك وقع، ولا عادش قطِّ يثور
سلّم على أبويا الحزين وقل له:
اللّي انكتب ما منع المقدور!»
(المصدر: عبد الحميد حواس، تباريح حزينة، مجلة ألف، عدد 30، 2010)