يورد لنا المسعودي في «مروج الذهب» قولاً عند صابئة حران ينسبه إلى أفلاطون يقول: «ورأيت على باب مجمع الصابية (أي الصابئة) بمدينة حرّان مكتوباً على مدقة الباب قولاً لأفلاطون أفهمني تفسيره مالك بن عقبون وغيره منهم وهو: من عرف ذاته تألّه. وقد قال أفلاطون: الإنسان نبات سماوي، والدليل على هذا أنه شبيه شجرة منكوسة أصلها إلى السماء وفروعها في الأرض».إذن، ومنسوباً إلى أفلاطون، فإنّ «الإنسان نبت سماوي». والدليل على هذا أنه يبدو معاكساً للنبت الأرضي. أي يبدو كشجرة منكوسة، أي مقلوبة: فرجلاه اللتان تمثلان فرع الشجرة على الأرض، ورأسه بشعره الذي يمثل الجذر طائراً في الجو. أي أنه يتبدى معاكساً للشجرة الطيبة في القرآن التي أصلها ثابت في الأرض وفرعها في السماء: «كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين» (سورة إبراهيم 24). أما هو فأصله، أي رأسه، في السماء، وفرعه، أي رجلاه، على الأرض.


والحق أن لدينا تورية يونانية تلعب على الإنسان anthropos والنبات المقلوب anatrope، بما يجعل الإنسان: «شجرة مقلوبة، يقابل شعره جذورها» كما يخبرنا نورثروب فراي، في «المدونة الكبرى».
ورؤية الإنسان كشجرة منكوسة، ليس معتقداً خاصاً باليونان فقط، بل معتقد عام للقدماء، في ما نرى. وهو في ما يبدو لنا على علاقة بأسطورة سقوط آدم من الجنة في ما يبدو لي. فحين كان آدم في الجنة، أي أيام كان نبتاً سماوياً، كان رأسه إلى الأسفل، ورجلاه إلى الأعلى. وحين سقط على الأرض، سقط منكوساً مقلوباً، أي أن وجوده الأرضي يعاكس وجوده السماوي.
ونحن نعلم أن الأطفال يسقطون من أرحام أمهاتهم عكس الوضع الذي يأخذه الإنسان على الأرض. إذ تسقط رؤوسهم على الأرض أولاً، ثم تسقط أرجلهم بعد ذلك. أي أنهم يكونون مثل وضع الإنسان في الجنة- السماء قبل سقوطه على الأرض. بذا، فالطفل يكون ما زال نبتاً سماوياً حين يسقط من رحم أمه. أي يكون شجرة سماوية غير منكوسة. وإذا حدث أثناء الولادة أن برزت رجلا الطفل قبل رأسه، فهذا هو الوضع الخطأ طبياً ودينياً. فالإنسان يجب أن يسقط من رحم أمه على رأسه. من أجل هذا، يُسأل المرء عن «مسقط رأسه» لا «مسقط رجليه». رحم الأم هنا تمثيل للسماء. فالإنسان يكون في رحم أمه كما كان في السماء: شجرة معتدلة، أي يقف على رأسه.
غير أنه يعدل من هذا الوضع لاحقاً، ويصير شجرة منكوسة، أي مقلوبة. فبعد عام أو عام ونصف من عمره، يقلب نفسه، ويسير على قدميه، أي يتخلى عن صورته السماوية، وينكس نفسه آخذاً صورة شجرة أرضية لا شجرة سماوية.
بالتالي، فالسقوط من رحم الأم ليس مشابهاً لسقوط آدم من الجنة، أي ليست انتكاسة. السقوط التالي، أي السقوط في الحياة، والمشي على صعيدها، هو السقوط الفعلي للإنسان. الميلاد هو استمرار للوجود السماوي. أما المشي على صعيد الأرض، فهو النكوس والانتكاس.
بناء على هذا، فنكسة الإنسان في وجوده الأرضي أعمق من أن تداوى. وهو ملزم إذا أراد أن يتجاوزها أن يسير على رأسه، أي أن يعود إلى ماضيه السماوي. فوجوده على الأرض هو خيانة لأصله السماوي. وبهذا يكون الموت هو اعتدال الإنسان بالمعنى الوجودي وبالمعنى الديني. فهو عند موته يعود إلى السماء، أي إلى أصله، ويتوقف عن أن يكون شجرة منكوسة. الحياة، دينياً، نكسة. وكي تخرج من نكستها، وتعتدل، عليها أن تحن إلى الموت.
وإذا كان الأمر كذلك، فغربة الإنسان أعمق من أن تداوى. فهو ملزم إذا أراد أن يتجاوزها أن يسير على رأسه من جديد، أي أن يعود إلى صورته الأرضية يوم مولده. مشيه على الأرض هو خطؤه. وحياته على الأرض غربة. ولا يحصل الخروج من هذه الغربة إلا بالموت. فالموت يأخذ الإنسان إلى السماء، إلى أهله، وإلى أرضه الأصلية.
الإنسان إذن وجود مزدوج يتمثل بشجرتين لا شجرة واحدة: شجرة سماوية طيبة، وشجرة أرضية خبيثة: «ألَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء. تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ»(سورة إبراهيم: 24-26). الشجرة الخبيثة الأرضية «ما لها من قرار». القرار للشجرة السماوية.
ولعل هذا هو جذر حلم الإنسان بالذهاب إلى الكواكب الأخرى، وجذر تلويث الأرض وتخريبها من قبل الإنسان.
الإنسان غريب يعيش في المنفى. الأرض أرض هجرته وغربته. ولحظة موته هي لحظة عودته من الغربة.

* شاعر وباحث فلسطيني