تعرفون قصة صعود الشيطان إلى سفينة نوح. فلم يكن مفترضاً به أن يصعد إليها، لكنه دخل بالبلطجة. تعلق حسب الروايات بذيل الحمار ودخل: «فلما أراد أن يدخل الحمار أدخل صدره فتعلق إبليس بذنبه فلم تنتقل رجلاه، وجعل نوح يقول له: ويحك اُدخل، فينهض فلا يستطيع، حتى قال له: ادخل وإن كان الشيطان معك، كلمة زلّت على لسانه، فلما قالها نوح خلّى سبيل الحمار فدخل الحمار ودخل الشيطان معه. فقال له نوح: ماذا أدخلك عليّ يا عدوّ الله؟ قال ألم تقل ادخل وإن كان الشيطان معك؟» (الخازن، لباب التأويل).وقبل أن نتحدث عن هذه الأسطورة، علينا أن نميز بين الشيطان وإبليس. فهما كيانان مختلفان تماماً، وإن كان بعض الناس يضع علامة مساواة بينهما، كما فعل الجاحظ، الذي أورد الأسطورة ذاتها وتعامل مع الشيطان فيها على أنه إبليس: «ومن لا علم عنده يروي أيضاً أنّ إبليس قد دخل جوف الحمار مرّة، وذلك أنّ نوحاً لمّا دخل السفينة تمنّع الحمار بعسره ونكده، وكان إبليس قد أخذ بذنبه. وقال آخرون: بل كان في جوفه فلمّا قال نوح للحمار: ادخل يا ملعون! ودخل الحمار، دخل إبليس معه، إذ كان في جوفه» (الجاحظ، الحيوان).


والحقيقة أن إبليس، الذي يقال إنه آتٍ من كلمة ديابولس Diabolos اليونانية، على علاقة بالزراعة. لذا فهو يظهر في التصوير الغربي Devil وهو يحمل ما يشبه المذراة التي فيها ثلاث شعب، وله قرنان وذيل وظلف. والمذراة رمز فلاحي بالتأكيد. كما أن الحيوانات ذات الظلف مرتبطة بالزراعة والمزارعين.
يؤيد هذا أن اسم إبليس يدعى عند العرب: الحارث أو أبا الحارث، وهو ما يربطه بالفلاحة والزراعة مباشرة: «كان إبليس من الملائكة من طائفة يقال لها الجن. وكان اسمه بالعبرية عزازيل، وبالعربية الحارث» (الدميري، حياة الحيوان الكبرى).
أما الشيطان فلا علاقة له بالفلاحة، فيبدو على علاقة بالصيد لا بالزراعة. دليل ذلك أن الحمار، الذي يرتبط به الشيطان كما رأينا في الأسطورة أعلاه، على علاقة بالصيد في التقليد العربي. يقول المثل العربي: «كل الصيد في جوف الفرا». وكنت عالجت هذا المثل، وبرهنت على أن الحمار فيه صياد، وليس موضوعاً للصيد. وهو صياد لأنه رمز لإله صياد.
وأياً كان الأمر، فإن علينا أن نوضح أن دخول الشيطان مع الحمار لم يكن فعل بلطجة طارئاً، بل هو من صميم الأسطورة ذاتها. فهي التي تقضي بأن عليه أن يكون رفيقاً للحمار. ولهذا دخل مع الحمار في سفينة نوح. فالحمار والشيطان من طبيعة واحدة ميثولوجياً.

الشيطان= الحية
والشيطان في اللغة هو الحية. لكنها حية بعُرف: «الشيطانُ: حَيَّةٌ له عُرْفٌ» (لسان العرب). وأن يكون للشيطان حية ذات عرف، فهذا ما يقربه من الحمار الذي له عرف مثل كل فصيلة الخيليات. يضيف الدميري: «نهيق الحمار يدل على رؤية الشيطان» (الدميري حياة الحيوان الكبرى). وهناك حديث منسوب إلى النبي يربط بين نهيق الحمار والشيطان: «ورد في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ... إذا سمعتم نهيق الحمار فتعوّذوا بالله من الشيطان فإنه رأى شيطاناً» (فتاوى الشبكة الإسلامية، لجنة الفتوى الإسلامية). الحمار ينهق لأنه رأى مثيله وقرينه.


يزيد المناوي: «وكان بعض العارفين يتمثل له الشيطان بصورة حية في محل سجوده فإذا أراد السجود نحّاه بيده» (المناوي، فيض القدير في شرح الجامع الصغير). ويؤكد هذا الدكتور جواد علي: «ومن القصص المذكور استمد أيضاً علماء اللغة ما ذكروه من أن كلمة «الشيطان» تعني الحية، ففي ذلك القصص [يكون] ظهور الشيطان على صورة «حية» خدعت أبوينا آدم وحواء في الجنة» (جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام).
بالتالي، فحين نتحدث عن الشيطان فنحن بشكل شبه مباشر نتحدث عن الحمار والحية معاً.
إبليس يدعى عند العرب: الحارث أو أبا الحارث، وهو ما يربطه بالفلاحة والزراعة مباشرة


لكن الحمار يسبق الحية في الأسطورة دوماً. لهذا تعلق الشيطان- الحية بذيل الحمار، أي أنه كان وراءه. فموقعه الدائم وراء الحمار، أي في دبره. بحيث يبدو وكأنهما طوران من مسألة واحدة.
ولدينا نحت حثي كاشف يصور حماراً- أو حصاناً لا فرق- نصفه الأخير حية. أي أننا مع كائن واحد نصفه حمار ونصفه حية. والحية هي النصف الأخير لا الأول كما في القصة. فالشيطان- الحية يأتي بعد الحمار دوماً.
إذن، فارتباط الحمار- أو فصيلة الخيليات- بالحية مغرق في القدم. وصعود الشيطان، الذي هو حية، بذيل الحمار إلى سفينة نوح طالع من هذا التقليد القديم.
بناءً عليه، فجملة الجاحظ: «ومن لا علم عنده يروي أيضاً أنّ إبليس قد دخل جوف الحمار مرّة» لا معنى لها. فمن روى هذه الرواية شخص يعرف الأسطورة ويؤمن بها. أما الجاحظ فيعرفها ولا يؤمن بها. إنها بالنسبة إليه خرافة باطلة. أما بالنسبة إلى المتدينين فهي علم. وفي ما يخصنا نحن فإننا لا ننكر الأسطورة مثل الجاحظ، بل نحاول فهمها. وليس هناك أسطورة إلا ويمكن فهمها في نهاية الأمر. فللأساطير منطق واضح. وهي تتبع هذا المنطق. وكل ما هو منطقي يمكن فهمه وتفسيره.

* شاعر فلسطيني