الاتجاه العام في المصادر العربية الإسلامية أنّ الاسم «محمد» نادر الوجود بين أسماء العرب، وأنه ظهر فقط مع البعثة النبوية أو على أبوابها. ويختصر القاضي عياض من القرن السادس الهجري هذه القناعة بقوله: «محمد أيضاً لم يسمّ به أحد من العرب، ولا غيرهم، إلى أن شاع قبيل وجوده (صلى الله عليه وسلم) وميلاده أنّ نبياً يُبعث اسمه محمد، فسمّى قوم قليل من العرب أبناءهم بذلك، رجاء أن يكون أحدهم هو، والله أعلم حيث يجعل رسالاته، وهم: محمد بن مسلمة الأنصاري، ومحمد بن براء البكري، ومحمد بن سفيان بن مجاشع، ومحمد بن حمران الجعفي، ومحمد بن خزاعي السلمي، لا سابع لهم» (القاضي عياد، الشفا بتعريف حقوق المصطفى، تحقيق كوسك، ص 287).وهكذا، فهناك ستة فقط من العرب سُمّوا باسم محمد. وقد سُمّوا بذلك قبيل البعثة النبوية وقبيل مولد النبي، انطلاقاً من نبوءة محددة تقول إن نبياً جديداً سيظهر باسم محمد. بذا فالاسم محمد وليد هذا الوضع الخاص. ولم يكن له وجود قبل ذلك. أما الأسماء الستة التي ذكرها القاضي عياض، فهناك من جعلها ثلاثة لا غير. لكنّ آخرين رفعوها إلى عشرين.
وقد ربط ابن إسحق في سيرته بين الاسم الآخر للنبي (أحمد) وبين «المنحنات» Mohmand، بمعنى المعزي. والمنحمنا هو الصيغة الآرامية- السريانية للفارقليط Paraclete اليونانية: «والمنحمنا بالسريانية: محمد: وهو بالرومية: البرقليطس، صلى الله عليه وآله وسلم» (ابن إسحق، السيرة النبوية). ورغم أن ابن هشام يقصد التساوي في المعنى لا اللفظ في أغلب الظن، فإن هناك من حاول أن يجعل من «محمد» تحريفاً لـ «منحمنا» انطلاقاً من ذلك.
غير أن كل هذا نُسف من أساسه خلال الشهور الماضية. فلا اسم «محمد» جديد على أسماء العرب الجاهليين، ولا هو نتاج المرحلة التي تسبق البعثة النبوية، إضافة إلى أنه اسم جاهلي أصيل وليس محرّفاً عن أي اسم آخر. فقد عُثر على نقشين جاهليين مكتوبين بالخط المسند يذكران بوضوح الاسم محمد. ومن المفترض أن الخط المسند الشمالي كان، بتنويعاته، هو الخط الذي يُكتب شمال الجزيرة العربية منذ القرن الثامن أو السادس قبل الميلاد وحتى القرن الثالث الميلادي، حيث توقف عن الوجود في هذا الوقت عند الغالبية، وحلّ محله الخط العربي الحالي المنبثق عن الخط النبطي. أما الخط المسند الجنوبي، فقد ظل موجوداً حتى الإسلام كما تشير الأدلة.
وهو ما يعني أنّ النقشين يسبقان الإسلام بثلاثة قرون على أقل تقدير. وحتى لو افترضنا أن المسند الشمالي توقّف عن الوجود في القرن الرابع أو الخامس الميلاديين، فإن النقشين يكونان قبل نهاية الجاهلية والبعثة بزمن طويل. وهو ما يعني أن الاسم قديم وأن حكاية ارتباطه بمولد النبي وبعثته غير صحيحة مطلقاً.

النقش الأول
النقش الأول عثر عليه مشاري عبد العزيز النشمي في «جبال الجلف» في منطقة حائل من شمال الجزيرة العربية. وقد نشره في كانون الأول (ديسمبر) عام 2021. وتبعاً لتقديرات الباحثين الذين يرون أن المسند الشمالي من المفترض أنه مات في حدود القرن الثالث الميلادي، فإن النقش يعود إلى هذه الفترة، أو على فترة تسبقها أو تليها بقليل. وقد نشر النشمي فيديو للنقش وقراءته له على تويتر. وأدناه صورة للنقش مأخوذة من الفيديو. وقد وضعنا السطر الذي يحوي الاسم محمد بين خطين.




وقد قرأ الناشر النقش على الوجه التالي، حسب ما فهمت من الفيديو: ودع محمد بن تبعة
وهذه القراءة تعاني في الواقع من مشكلتين:
الأولى: أن الناشر لم يقرأ الكلمة الأولى في السطر، وهي تُقرأ بوضوح هكذا: «هـ رضو»، أي: يا رضو. فالهاء حرف نداء مثل الياء. بذا فالكلمة التي تلي ليست «ودع»، كما قرأها الناشر بل «دع». فالواو تتبع لاسم الإله «رضو».
الثانية: أن الاسم الأخير ربما يجب أن يُقرأ «زبعة» وليس «تبعة» في ما يبدو لي. وإن صحّ هذا فالسطر يقول:
هـ رضو دع محمد بن زبعة (زابعة، زوبعة؟).
أي: أيها الإله رضو احفظ، أو احمِ، محمد بن زبعة.
ذلك أن كلمة «دع» تعني احفظ، أو احم، أو أبق على.
أما الإله رضو، فقد ظل موجوداً حتى الإسلام. وهو الذي يشار إليه في المصادر الإسلامية باسم «رضا». وبه كان يُسمى الجاهليون «عبد رضا». وقد هُدمت كعبة هذا الصنم في الإسلام على يد المستوغر بن ربيعة بن كعب بن سعد، كما يخبرنا ابن إسحق في سيرته. وهو يورد ما زعم أنه شعر للمستوغر بشأن الهدم يقول فيه:
ولقد شددتُ على رضاءٍ شدةً
فتركتها قفراً بقاع أسحما
ويؤنث الشاعر «رضاء» لأنه يقصد كعبته. ذلك أنّ رضو إله مذكر في غالب الظن.

النقش الثاني
نُشر هذا النقش في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2021. وناشره هو: مشعل بن عبدالله. وقد عُثر عليه في منطقة نجران. وهو مكتوب بخط المسند الشمالي أيضاً، رغم أن نجران يمنية جنوبية، أي يمنية عملياً.


وقد قرأ الناشر النقش على الشكل التالي:
ي ث ع ت ص ر ج ر م ح م د
وفسره هكذا: «المعنى: يثع تصر جرن محمد».
والحق أن الناشر قرأ العلامات بشكل سليم باستثناء علامتين:
العلامة الأولى: وهي العلامة التي تسبق الاسم محمد، وهي تمثل خطاً عمودياً. فهي علامة فصل بين الكلمات في أغلب الظن وليست نوناً كما افترض الناشر.
الثانية: وهي العلامة التي تسبق هذه العلامة. فهي طاء وليست جيماً. بذا فحروف النقش هكذا:
ي ث ع ت ص رط/ م ح م د
وتُقطع الحروف إلى كلمات هكذا: يثع تصرط محمد
أي: يا يثع تصرط محمدا.
لكن لو كانت علامة الفصل حرف نون كما قرأها الناشر، فالجملة تُقرأ هكذا: يثع تصرطنّ محمد. وهذا أمر غير محتمل في رأيي. فنون التوكيد تأتي مع القسم أو الشرط. وليس في الجملة ما يوحي بقسم أو شرط.
والآن، ماذا تعني جملة: يثع تصرط محمد
من الواضح أنها دعاء للإله يثع من قبل شخص اسمه محمد، عبر ياء نداء، أو هاء نداء، مقدّرة في أول الكلام. والإله «يثع» إله معروف في نقوش الجزيرة العربية شمالاً وجنوباً. لكنّ هذا الإله كان قد نُسي في نهاية الجاهلية. بذا فلم تورد المصادر الإسلامية أي خبر عنه، ولا عن أناس تسمّوا باسمه. بذا، فزمن النقش بعيد كثيراً عن نهاية الجاهلية وعن الإسلام. أما كاتب النقش، فيدعو هذا الإله أن «يصرطه». فما الذي تعنية كلمة «تصرط» هنا؟
رأيي هو أن الكلمة من الجذر «صرط» الذي يأتي أيضاً بالسين (سرط)، والذي اشتقّت منه كلمة الصراط التي تعني: الطريق المستقيم، أو الصحيح والسليم: «والسِّراطُ: السبيل الواضح، والصِّراط لغة في السراط، والصاد أَعلى لمكان المُضارَعة، وإِن كانت السين هي الأَصل» (لسان العرب). بذا فكلمة تصرطه تعني: ضعه على الطريق المستقيم، أو قده إلى الطريق المستقيم، أو وفّقه بالسير على الطريق المستقيم. وقد سقط الفعل (صرط) بهذا المعنى من الاستعمال في نهاية الجاهلية، فسقط بالتالي من القواميس أيضاً.
وإذا صحّ هذا، فإن الطابع الديني لكلمة «الصراط، السراط» كما وردت في فاتحة القرآن «اهدنا الصراط المستقيم» كان معنى معروفاً منذ القدم في الجاهلية، ولم يكن تعبيراً إسلامياً جديداً. وهو ما يعني أن كلمة تصرط في النقش تساوي «اهدنا الصراط» في القرآن.
بناءً على ما سبق، فقد كان الاسم محمد موجوداً في شمال وجنوب الجزيرة العربية قبل وقت لا بأس به من البعثة النبوية. بذا يمكن القول إن هذين النقشين قد أطاحا بفرضية أن الاسم محمد حديث، وأنه وُجد في نهاية الجاهلية فقط.

* شاعر فلسطيني