ما يجعل مدينة القرن الحادي والعشرين تنذر بعالم ما بعد رأسمالي هو أنها المرّة الأولى في التاريخ الحديث التي يمكن فيها للشبكة أن تتجاوز السوق. تخيّلوا أنفسكم في أمستردام تحديداً قبل 400 عام. بأي مفردات تصفون الأزمة الاقتصادية الاستثنائية والنظام الاجتماعي من حولكم؟
هناك بورصة وسوق للعملات وبنك مركزي. أمّا المؤسّسة الاجتماعية الأهمّ فهي شيء يُسّمى «شركة» - ليس أية شركة قديمة بل تحديداً شركة الهند الشرقية الهولندية - الأكثر نفوذاً في العالم.
ثمّة مفاتيح أخرى: الأسطول التجاري للمقاطعات المتّحدة هو أكبر من الأساطيل التجارية لأوروبا مُجتمعة. وأمستردام هي «مكتبة العالم». وهولندا جمهورية.
إذاً باستعمال المفردات المتوافرة لكم كمواطنين في الجمهورية الهولندية، هل تسمّون ذلك نوعاً من المجتمع؟
اليوم بات الأمر واضحاً: كان ذلك الازدهار الأوّل للرأسمالية التجارية. وبدأت عملية الانتقال تلك قبل 100 عام على الأقل. وفي حين كانت لندن تمتلك بعض الأجزاء الناشطة في النظام الجديد، كانت أمستردام تمتلكها جميعها. وقد لخّص السفير الإنكليزي، السير وليام تمبل، الارتباك في بقية العالم بما يلي:
«ليس لديهم سلع أصلية لبناء أو تجهيز حتّى سفينة صغيرة. ليس لديهم أية سلع على سواحلهم. وهولندا لم تصبح غنية بفعل سلعها الأصلية بل بقوّة صناعتها؛ وعن طريق تحسين وتصنيع جميع المنتجات الأجنبية؛ وبكونها المخزن العام لأوروبا حيث يتوافر كل ما يريده السوق...».
ولكن لم يكن هناك مفردة تعبّر عن هذا النظام الجديد. فحتّى المراقبون الثاقبون مثل تمبل، الذين استطاعوا تحليل ما يجري بدقّة، لم يستطيعوا تسميته. فكلمة «رأسمالية» لم تظهر حتّى منتصف القرن التاسع عشر حين استخدمها ماركس وبرودون ولوي بلان لوصف إقصاء المنتجين عن ملكيّة الأصول.
وتفترض نظرية «ما بعد الرأسمالية» أننا اليوم في حالة مشابهة للمواطنين ذوي الياقات البيضاء الذين يحدقون فينا في لوحة «ورديّة الليل» لرامبرانت، فنحن نعرف أن شيئاً كبيراً وجديداً يحصل، ولكننا نفتقد إلى المفردات لوصفه، لأسباب عدّة، من بينها أننا لا نعرف إلى أين سيقودنا.

تأثير الشبكة
لنستعرض أوجه الظاهرة الجديدة الغامضة التي تحيط بنا. أوّلاً، هناك السلع التي يتمّ إنتاجها بشكل طوعي مجّاناً: البرنامج المفتوح المصدر الذي يشغّل 70% من الهواتف المحمولة في العالم و90% من أجهزة الكومبيوتر العملاقة. ومن ثمّ المصادر المجّانية للمعلومات مثل ويكيبيديا وموسوعة ستانفورد للفلسفة. وأيضاً الشركات التي لا تبغي الربح: الشركات ذات المسؤولية الاجتماعية والتعاونيات. ومن هناك المعايير التكنولوجية التي تنتج بشكل حرّ والتي تفرضها الهيئات الصناعية العالمية مثل معهد المهندسين الكهربائيين والإلكترونيين.
قبل كلّ شيء، يجب أن نشير إلى أن «تأثير الشبكة» موجودٌ في كلّ مكان. فالوجود الفاعل لأعداد كبيرة من الأشخاص على شبكات المعلومات يحقّق فائدة تفوق أيّ شيء يمكن تحقيقه عن قصد عبر تفاعلات السوق.

أنجل بوليغان المكسيك

اطلبوا من الاقتصاديات السائدة تصنيف البرامج مفتوحة المصدر، ستجيب بأنها حالة شاذّة وهي فعل حسن نيّة. فتأثير الشبكة يُفهم على أنه «مظهر خارجي إيجابي»، ولكن هذه العبارة تشير إلى شيء عرضي ومُفاجئ. أمّا بالنسبة إلى نماذج الأعمال المُخالفة للإجماع، فيجب عليها أن تعشّش في الثغرات الموجودة في قانون الشركات والمؤسّسات التي ستبقى مُعترفاً بها لمواطني الجمهورية الهولندية.
هذه هي الأشكال الصغيرة التي تمثّل هذا النوع الجديد من الاقتصاد الذي يمكن أن يحلّ محل الرأسمالية. وهي قادرة على ذلك لأنها وظائف التكنولوجيا الشبكية الرقمية التي توشك على تحويل الحياة على هذا الكوكب. وهذا أمر مطلوب لأن النظام الحالي لا يعمل. ولكن السؤال هو: كيف نبدأ الانتقال؟ ما هي وحدة الحكم والاقتصاد السياسي الأكثر ملاءمة لاتخاذ خطوات تتجاوز تعاونية التكنولوجيا المعزولة، والمخبز الأناركي وبنك الأخلاق؟

مدينة القرن الحادي والعشرين
الإجابة هي: المدينة. فمدينة القرن الحادي والعشرين المترابطة شبكياً تغيّر طريقة تفكيرنا بالوقت والثقافة والنُّدرة والمساحة. ولم يعد اختلال توازن القوّة والثروة والبنية الديموغرافية بين شيكاغو وباقي ولايات إيلينوي أو لاباز وباقي بوليفيا أو هلسنكي وريف فنلندا... هو ببساطة نتيجة لثنائية الصناعة مقابل الزراعة. فقد كثّف ضخّ التكنولوجيات المُترابطة شبكياً في المدن الكبرى العلاقات الاجتماعية فيها، بينما ضربها في البلدات الصغيرة.
وكان واضحاً حتّى في أواخر المرحلة الناجحة لليبرالية الجديدة أن اقتصادات المدينة يمكن أن تحقّق الاكتفاء الذاتي نسبياً. ففي حالات الركود - حتّى في ظل الأزمات المالية العميقة - طالما هناك أموال مصرفية وبنك مركزي على استعداد لتوسيع المعروض منها، فإن الصبي الذي يعمل في «صاب واي» سيبقى قادراً على شراء قميص من «زارا»، والفتاة التي تعمل في «زارا» ستشتري غداءها من «صاب واي».
أضيفوا الوصول إلى المعلومات عبر الاتصال بالموجة العريضة للهواتف الذكيّة، ففي غضون 15 عاماً، تكثّف الطابع الاجتماعي للمساحة الحضرية بطرق لا يمكن قياسها إلّا من قِبَل من لديهم إمكانية الوصول إلى البيانات. ولا تقدّم التغييرات المادية - العاملون في المطاعم والمتاجر الواقفون قرب المداخل خلال استراحتهم أو يراسلون أصدقاءهم أو المقاهي التي تعجّ بأشخاص ينحنون أمام أجهزة الكمبيوتر المحمول أو يضعون سماعات الأذن - سوى دليل ظرفي على ما يحدث.
في المهن التي عملت فيها - الصحافة والسياسة وصناعة الأفلام والمسرح - لاحظت تغييراً في تأخّر اتخاذ القرارات والالتزام والالتزام التعاقدي. فإذا قال أحدهم إنه سيجتمع بك في الساعة التاسعة يوم الاثنين، فمن المفترض أن الموعد سيتغيّر قبل ثلاثين دقيقة منه. ومواقع اللقاء تعطى بشكل تقريبي. ونادراً ما تدوم الاجتماعات أكثر من 15 دقيقة قبل أن يستأذن أحد المشاركين لينجز عملاً ما على هاتفه الذكّي.
وعلى الرغم من أن جميع العقارات في المدينة باهظة الثمن، إلّا أن الأشياء الفعلية مثل الكابوتشينو والسندويشات والاتصال بالإنترنت، ثمنها زهيد وقابلة للتبديل. والثقافة هي عملة كلّ شخص ليس كادحاً: الثقافة الجماهيرية - بدءاً من الأعمال الدرامية التلفزيونية إلى الموسيقى الراقصة - مُتاحة بشكل فوري وبجودة عالية بما يكفي لضمان صناعة مُصغّرة للتحليل الثقافي. حتّى الثقافة العالية المستوى، كما هو الحال مع الأوبرا التي تُبَث في دور سينما، كانت ميّتة من قبل، ولا يمكن الوصول إليها إلّا عندما يرغب حرّاس البوابة ذلك.
وقد تكون ردّة فعل شخص خرج من حبس إفرادي دام 20 عاماً على الواقع الحضري الحديث، كما كانت ردة فعل السير وليام تمبل: يشبه هذا المكان إلى حدّ ما العالم الذي جئت منه ولكن بديناميّات مختلفة.

مؤسّسات جديدة
المقصود أنّه من أجل إطلاق العنان لأسلوب الحياة الجديد هذا، تحتاج المدينة إلى مؤسّسات جديدة تستجيب للديناميّات التكنولوجية.
في كتابي الجديد «مستقبل واضح مشرق» أشرح الشروط الأربعة للمشروع ما بعد الرأسمالي. أوّلاً، تفكيك الاحتكارات التكنولوجية العملاقة، وتدمير أرباحها الهائلة ونفوذها الاجتماعي. ثانياً، فصل العمل عن الأجور عبر استخدام الحدّ الأدنى لدخل المواطن أو - في الدول العالية الرفاهية - عبر خدمات أساسية شاملة للترويج للأتمتة السريعة. ثالثاً، تعزيز تأثير الشبكة عبر حظر نماذج الأعمال التي تسعى إلى الريع. وأخيراً، وضع سلسلة من الحقوق الخاصّة بالبيانات المُصمّمة لتعزيز الوصول المُتماثل للبيانات بين الشركات والعملاء وبين المواطنين والدولة.
في المدن، بدأ الاستكشاف المبدئي للاقتراحات الثلاثة الأخيرة بشكل عملي. فأمستردام لديها الآن FairBnB وFairPhone. وأرست برشلونة الحقّ في البيانات العامّة كمصلحة عامّة. كذلك يمكن أن يُشكِّل النقل والسكن المجاني أو الرخيص للغاية أو السكن المُحدَّد الإيجار أسساً لتقديم خدمات أساسية شاملة.
ولكن الابتكارات دائماً ما تعلق في الواقع السياسي. ففي برشلونة مثلاً، كان على العمدة آدا كولاو أن تحكم في إطار تحالف مع الحزب الاشتراكي، الذي كان سعيداً بما يكفي، بالنموذج النيوليبرالي للاستعانة بمصادر خارجية التي تعتمدها الشركات الكبيرة. وفي مكان آخر، فرضت برلين قيوداً على AirBnB، وحاولت لندن إجبار «أوبر» على الامتثال للقانون، لكن لم يتصرف أي منهما بقوة كافية.
ما تحتاج له مرحلة ما بعد الرأسمالية هو مرادف لأمستردام القرن السابع عشر. مكان حيث الناس هم السلطة وحيث السياسيون مصمّمون على اختبار الابتكارات الاجتماعية بجرأة.
كان لأمستردام بورصة وبنك وميناء تجاري وصحيفة مجّانية. عندما يفكّر قادة مدن القرن الحادي والعشرين بالمستقبل، يميلون إلى إنشاء مساحات على شاكلة وادي السيلكون - مثل مستديرة السيلكون في شوريدتش في لندن - أو تخصيص نسب مبدئية من المباني الجديدة للإسكان الاجتماعي.
ولكنّي بدلاً من ذلك أدعو حكومات المدن أن تسعى إلى ما يلي:
أولاً، كما هو الحال في برشلونة وأمستردام، أن يكون لديها سيادة على البيانات. فالبيانات العامّة للمدينة يجب أن تكون مصلحة عامّة. وعلى المدن أن تسعى إلى إرساء حقّ المواطنين في امتلاك البيانات التي ينشِئونها بشكل جماعي عبر مؤسّسات الدولة، بموجب عقد مبدئي ثمّ بموجب قانون وطني. ثم يجب توفير ثلاث خدمات أساسية بأسعار زهيدة للغاية أو بالمجان: تعليم حتّى مستوى الشهادة، وشبكة نقل، ورعاية صحّية. أمّا الخدمة الرابعة وهي الإسكان، فيجب أن تكون لجميع المواطنين، ويجب أن تخضع مدفوعات الإيجارات وعملية منح الرهون العقارية لتنظيمات تخفّض بشكل سريع النسبة التي تنفقها الأسر عليها.
ما يجعل مدينة القرن الحادي والعشرين تُنذر بعالم ما بعد رأسمالي، أنها المرّة الأولى التي تتجاوز الشبكةَ فيها السوق


من شأن هذه الإجراءات أن تُحدث ثورة في حياة ذوي المداخيل المتدنّية وأصحاب الوظائف غير المستقرّة. ومن شأنها أن تقوم بدور آلية إعادة توزيع وأن تشكّل الروابط التي تجمع أجزاء المجتمع الحضري الزئبقي. ولن يقاس هدف حكومات المدن التي اعتمدت هذه الإجراءات من خلال ارتفاع الناتج المحلّي الإجمالي بل بخفض انبعاثات الكربون ورفع نتائج الصحّة العامّة والعقلية.
والهدف من ذلك هو تشجيع ظهور اقتصاد غير سوقي لا يتألّف فقط من تعاونيات إسكانية واتحادات ائتمانية وبنوك أخلاقية وشركات متعدّدة المالكين، بل أيضاً من اقتصاد ثقافي واسع يمكن الوصول إليه بثمن بخس. وسيحتاج الأمر إلى تدابير قانونية بينها قوانين لمنع البناء القائم على المضاربة وإخراج وسائل النقل العام من إطار الملكيّة والسيطرة الخاصّة ووضع تشريعات أساسية جديدة تتيح ظهور نماذج تجارية غير سائدة.
ازدهرت أمستردام لأنها كانت أقرب إلى الدولة ووقفت على التقاطع بين التجارتين الأوروبية والعالمية. ويتألّف الاقتصاد العالمي للقرن الحادي والعشرين من أشخاص وأفكار وأشياء، حيث الأخيرة تسير وراء المكوّنَين الآخرين. وقد يكون العرض الرئيسي لمدينة ما بعد الرأسمالية هو: «إليكم جميع الأدوات الاجتماعية الضرورية لجذب الناس لعيش حياة بأسلوب جديد وإليكم أين ولدت هذه الأفكار».
وكما كانت أمستردام محرّك التحوّل للسلع والمال، فإن مدينة ما بعد الرأسمالية ستكون محرّك التحوّل للأشخاص والأفكار.

تأطير المشروع
كيف نحقّق ذلك؟ يكشف التباين بين كولو وسياسي مثل عمدة لندن صادق خان، نقطة الانطلاق. إذ يجب تأطير المشروع على أنه انتقال إلى شيء آخر وليس رعاية ناجحة للوضع القائم المبني على المضاربات العقارية والتمويل المرتفع.
ولكن المقاومة متوقّعة نظراً إلى الطبيعة المتأصّلة للنفوذ النيوليبرالي، داخل شبكات التمويل المرتفع، وحكم الأقلّية الفاسدة وبيروقراطيات الدولة والنخب المتوارثة. ولكن المجتمع البرجوازي السابق تغلّب على المقاومة من خلال الإنجاز وليس فقط من خلال الصراع الطبقي. وكان المفتاح إعادة تأطير معايير النجاح.
ويثير الطابع الطارئ للأزمة المناخية بالتوازي مع عدم ملاءمة مقياس الناتج المحلّي الإجمالي في زمن السلع غير المادية والافتراضية، سجالاً حيال الإجراءات البديلة للثروة الاجتماعية. وفي مقالات لاحقة سأستعرض لماذا الإجراء الجديد المبني على تحرير العمل وأوقاته يمكن أن يكون أساسياً لمساعدة صنّاع السياسة على إنجاز الانتقال الذهني إلى معايير نجاح جديدة.

* Social Europe
* ترجمة: لمياء الساحلي

* بول ماسون: كاتب بريطاني ومذيع ومؤلّف كتاب «ما بعد الرأسمالية .. دليل إلى مستقبلنا».