عندما تحوّلت شجرة الزيتون من شجرة «دهرية» إلى شجرة «زينة» في لبنان، كان يجب أن نستنتج فوراً أننا شعب ذاهب إلى خراب أو زوال. هذه الشجرة التي تم تقديسها تاريخياً، نظراً إلى الخدمات المتعدّدة والمتكاملة التي تقدّمها، بات هناك من يقتلع تلك المعمّرة منها من أجل الزينة! تؤمّن هذه الشجرة، كما هو معلوم، الغذاء والدواء والطاقة والنظافة (صناعة الصابون واستخدامات تجميلية أخرى) والفيء وتحمي البيئة… وتعمّر مئات وآلاف السنين. وتعدّ هذه الشجرة الأكثر انتشاراً على الأراضي اللبنانية وباعتبارها المكوّن الأساسي للأمن الغذائي في لبنان.
هي التي تحدّثت عنها الكتب القديمة، ولا سيما قصة نوح والطوفان والحمامة التي حملت غصناً من أغصانها كدلالة على بداية ظهور الأرض التي أنبتتها. تعيش في ظروف مناخية بالغة التنوّع، من الساحل إلى ارتفاع 1200 متر عن سطح البحر. تعمّر آلاف السنين كما هي الحال في منطقة بشعلة (البترون) التي تحتضن أشجاراً معمّرة يصل عمر بعضها إلى 2050 سنة ولا تزال تنتج… بالرغم من التغيّرات المناخية التي مرّت عليها. مع العلم أن كلّ الأشجار المعمّرة التي تمّ اقتلاعها بهدف بيعها للزينة، لم تعد تنتج!

(هيثم الموسوي)

كان في لبنان ما يقرب من 25 مليون شجرة زيتون، بحسب تقديرات تجمّع الهيئات الممثلة لقطاع الزيتون، وقد أصبح عدد الأشجار الباقية ما يقرب من 15 مليوناً، بعد التمدّد العمراني الذي اجتاح الكثير من المناطق التي كانت تحتضن هذه الأشجار، كصحراء الشويفات وغابة زيتون طرابلس- أبي سمرا التي كانت تصل إلى البداوي وقسم كبير من غابة زيتون الكورة، التي دمّرتها أعمال مقالع شركات الإسمنت. وبالرغم من كلّ ذلك، تدلّ بعض الدراسات الحديثة إلى أنّ هناك عودة أخيراً لإعادة زراعة هذه الشجرة بنسبة زيادة تبلغ أكثر من 2.5% سنوياً، لا سيما في السنتين الأخيرتين بعد الحرب الروسية - الأوكرانية وارتفاع أسعار الزيوت النباتية.
في قراءة أوّلية للإنتاج هذا العام، بحسب رأي بعض الهيئات الممثلة للقطاع، الموسم وفير باستثناء منطقة حاصبيا، بانخفاض إنتاجي بنسبة 40% عن العام الماضي. والتقديرات هذا العام بإنتاج 400 طن من حبوب الزيتون (80 ألف طن من الزيت تقريباً). يستهلك لبنان ما يقرب من 16 ألف طن من زيت الزيتون سنوياً، بمعدّل وسطي يبلغ 4 كيلوغرامات للفرد سنوياً. وهي أرقام تدلّ على أن الإنتاج أكثر من الاستهلاك، ولا تبرّر فتح باب الاستيراد بطرق مباشرة أو غير مباشرة.
هناك قرار صادر منذ حكومة تمام سلام يمنع الاستيراد إلا بموجب إجازة مسبقة من وزارة الزراعة، إلا أن التهريب والغش لا يزالان يأخذان أشكالاً عدة، يجب ضبطها (لن ندخل بتفاصيلها). كما ارتفعت أسعار الزيت كثيراً على الدولار من دون أن يكون هناك رقابة مشدّدة على المعاصر وطرق البيع وضمان النوعية والجودة. قامت مؤسسة المواصفات والمقاييس (ليبنور) بتعديل المواصفات واستبعاد الزيت المكرّر وزيت الجفت الصالح للاستهلاك البشري بحسب المواصفات الغربية التي تخضع عادة لآراء التجار وليس المزارعين... وتبقى العبرة في كيفية مراقبة تهريب الزيوت المغشوشة. وبقي هناك مهمات كثيرة لحماية المستهلك اللبناني من الغش وإيجاد آلية شاملة لمعالجة زيبار الزيتون بعد العصر لكي لا يلوّث الأنهر والوديان في مواسم عمل معاصر الزيت.
وبالرغم من اعتبار موسم الزيتون في لبنان، من المواسم التراثية التي تنشغل بها معظم المناطق اللبنانية، كان إنتاج زيت الزيتون لا يزال حتى الأمس القريب، يعدّ «صناعة ملوّثة» تولّد نوعين من النفايات، نفايات سائلة (الزيبار) ونفايات صلبة (الجفت)، وذلك بسبب التخلّص العشوائي من هذه النفايات الذي يؤثر سلباً على التربة، والمياه السطحية والجوفية ومياه الأنهر، بالإضافة إلى التأثيرات السلبية على الهواء. إلا أن الكثير من الأبحاث والدراسات والتجارب الحديثة، وجدت في زيبار الزيتون إفادات متعدّدة إذا ما أحسنت إدارته. وقد بيّنت الدراسات أن الزيبار يتميّز بغناه بالمواد العضوية والمواد المغذّية للتربة، كما يعتبر مصدراً للماء قليل الكلفة، ما يحفز استخدامه كمادة تسميدية أو كمواد محسّنة للتربة. كما للزيبار تأثير إيجابي على تركيبة التربة وثباتها وعلى الخصائص الهيدروديناميكية للتربة الرملية، وبالتالي يمكن استخدامه كمحسّن للتربة لتخفيض التبخر في المناطق الجافة وشبه الجافة.
وبالإذن من صاحب كتاب «السيارة ليسكسوس وشجرة الزيتون» توماس فريدمان، فإن هذه الشجرة الدهرية ستصمد ليس أمام العولمة فقط، بل أمام كلّ محاولات تسليع كلّ شيء لخدمة الشركات العالمية الكبرى. وأن الأزمات الكبرى، العالمية والوطنية منها، ستعيد الاعتبار لهذه الشجرة المتوسطية وللجذور والأرض والطبيعة، عاجلاً أم آجلاً، كجزء أساسي من الأمن الغذائي.