يوجد سوء فهم قديم يحكم مسألة عمل «عشرات ألوف السوريين» في لبنان. فالخطاب «الشعبوي» المُهيمن يقدّمها دائماً بوصفها استغلالاً سورياً لمقدّرات الاقتصاد اللبناني، واقتناصاً لفرص عمل اللبنانيين ومصادر دخلهم، فيما هي في الواقع استغلالاً لبنانياً لميزة «رخص» اليد العاملة السورية (والفلسطينية) مقارنةً باللبنانية، أسهم تاريخياً في تكبير «جيش العمّال الاحتياطي»، ومكّن رأس المال من تعظيم أرباحه وتخفيض حصّة الأجور وتفكيك أنظمة الحماية القانونية والاجتماعية وتضييق نطاق تغطيتها وتقليص الفئات المشمولة فيها، وكذلك أسهم في تشويه بنية الاقتصاد اللبناني التي تتميّز بغلبة قطاع الخدمات المتدنّية الإنتاجية على الزراعة والصناعة.بداية، لا بدّ من التذكير بأنّ وجود هذا العدد الكبير من العمّال السوريين لم يرتبط فقط بتدفّق اللاجئين اعتباراً من عام 2011، بل يكاد يكون مكوِّناً رئيساً من مكوّنات القوى العاملة في لبنان. فمنذ خمسينيات القرن الماضي، ترافق تطوّر الاقتصاد اللبناني ودورات أزماته ونموّه مع الاستخدام الكثيف للعمّال الأجانب في مقابل هجرة العمّال اللبنانيين إلى الخارج. يذكر علي الشامي في كتابه «تطوّر الطبقة العاملة اللبنانية في الرأسمالية اللبنانية المعاصر» (الصادر عام 1981) أن «العمّال السوريين والفلسطينيين شكّلوا منذ عام 1948 مصدراً رئيساً لتجنيد العمالة الرخيصة في الزراعة والبناء، وقد بلغ عددهم في هذين القطاعين ما بين 100 ألف و120 ألفاً في السبعينيات، وهم يعملون بمعظمهم أُجَراء مياومين وموسميين، ويتعرّضون لتمييز كبير في الأجر والضمانات الاجتماعية والحرّيات السياسية، ويقوم معظمهم بالأشغال الصعبة التي لا يتوافر لها عرض كافٍ من جانب العمالة اللبنانية». ويستند الشامي أيضاً إلى استقصاءات ميدانية أجريت في عام 1970، تبيّن أن مرفأ بيروت (مثلاً) كان يوفّر ما بين 1300 و1500 وظيفة، يشغل 30% منها عمّال سوريون وفلسطينيون، فيما كان أكثر من ثلث عمّال الدباغة في ضواحي بيروت (مثلاً) سوريين.
كما هو الحال الآن، لا توجد إحصاءات دقيقة لعدد العمّال السوريين في لبنان في أي حقبة من الحقبات الماضية، ولكن دراسات الإحصاء المركزي (على علّاتها) تفيد بأن 15% من المقيمين في بيروت في عام 1970 كانوا «أجانب»، وأن جزءاً مهمّاً من الدفق السكّاني إلى بيروت في السبعينيات كان مصدره سوريا. وإثر أحداث عام 1973، تداولت الصحافة معلومات عن وجود 50 ألف عامل زراعي سوري في سهل البقاع وحده. وكذلك ورد في تقرير بعثة الأمم المتّحدة برئاسة المستشار الاقتصادي دوران في عام 1971 أن ما بين 20 ألفاً و30 ألف عامل أجنبي كان يدخل إلى لبنان كل سنة في الفترة بين 1964 و1970، في المقابل كان يهاجر نحو 13 ألف لبناني بحثاً عن عمل في الخارج. ويشير التقرير إلى أن 57% من المهاجرين اللبنانيين كانوا يملكون مؤهلات تعليمية، في حين أن 75% من المهاجرين إلى لبنان هم من العمّال غير المهرة، وهذه من السمات الثابتة حتّى الآن، حيث تهاجر العمالة الماهرة ويحلّ محلّها عمالة غير ماهرة.
بمعنى ما، كان العمّال السوريون موجودين في لبنان دائماً بكثافة، وبالتالي لا يتعلّق وجودهم بأزمة اللجوء الأخيرة، على عكس الفلسطينيين، بل هناك استقصاءات كثيرة تشير إلى أن قسماً كبيراً من السوريين الذين لجأوا إلى لبنان أخيراً هم أفراد من أسر العمّال السوريين الذين كانوا يعملون في لبنان قبل اندلاع الصراع في سوريا. وعلى أي حال، يمكن الاستنتاج من التقديرات المُتاحة أن العمالة الأجنبية شكّلت تاريخياً نحو ربع القوى العاملة في لبنان، وهذا ينطبق على حقبة ما قبل الحرب في لبنان وحقبة ما بعدها، وما قبل الحرب في سوريا وما بعدها.
إذاً، مسألة «العمالة السورية» في لبنان ليست ظرفية، بل بنيوية وتاريخية، وهي ترتبط بنحو وثيق بنمط تطوّر الاقتصاد اللبناني ككلّ، وتكفي الإشارة إلى أن الخطاب الموجّه إلى اللاجئين السوريين اليوم، هو الخطاب نفسه الذي ظهر في نهاية تسعينيات القرن الماضي بعد فشل مشروع إعادة الإعمار وانفجار أزمة العجز المالي والدَّيْن. ومن المفارقات التي تدلنا عليها هذه المقارنة بين خطاب اليوم وخطاب الأمس أنهما يتشاركان في تأجيج المخاوف من وجود مليون ونصف مليون سوري على الأراضي اللبنانية، فالخطاب «الشعبوي» في التسعينيات كان يروّج أن هناك أكثر من مليون عامل أجنبي يعملون في لبنان بعد الحرب وينافسون اللبنانيين على مصادر عيشهم. ولو كان هذا الرقم صحيحاً، فإنه سيعني أن وزنهم قياساً إلى عدد اللبنانيين المقيمين كان أعلى في السابق من وزن اللاجئين السوريين اليوم. أمّا المفارقة الثانية المهمّة، فإن خطاب الأمس كما خطاب اليوم يتعامل مع هذه المسألة بوصفها خطراً ديموغرافياً، مصدره في السابق السيطرة العسكرية والمخابراتية السورية المباشرة على لبنان، ومصدره اليوم تدفّق هذا العدد الهائل من الهاربين من الحرب في سوريا. وفي الحالتين، يجري طمس المصدر الفعلي المتمثّل ببنية الاقتصاد نفسه، الذي لا يولّد وظائف وأجور كافية، وما يولّده يتسم بنوعية سيّئة ومنخفضة ومستوى عالٍ جدّاً من الاستغلال ودرجة تركّز هائلة في توزيع الدخل والثروة.
لا يهاجر اللبنانيون أو يسقطون في براثن البطالة والفقر لأن السوريين يقنصون الوظائف والأجور، بل لأنهم يستثمرون كثيراً في التعليم من دون أن يقابل ذلك أي قدرة لاستيعابهم في سوق العمل، فالوظائف التي يخلقها الاقتصاد اللبناني تتركّز في أنشطة لا تحتاج إلى عمالة ماهرة، ولا سيّما في تجارة التجزئة والبناء والخدمات الهامشية والأعمال السياحية والزراعية الموسمية، وجميعها أنشطة لا تولّد قيم مضافة عالية وتتميّز بحصّة ساحقة للأرباح في مقابل أجور متدنّية جدّاً. وهذا ما يفسّر جانباً مهمّاً من جوانب تدهور حصّة الأجور من مجمل الناتج المحلّي، إذ تفيد التقديرات أنها تراجعت من نحو 55% قبل الحرب إلى 35% في الحرب ومرحلة إعادة الإعمار وصولاً إلى 25% اليوم. في المقابل، ارتفعت حصّة الـ10% الأعلى دخلاً إلى 55% من مجمل الدخل المُحقّق، وباتت هذه الفئة تستحوذ على 70% من مجمل الثروة ونحو 90% من مجمل الودائع المكتنزة في المصارف. وفي الإطار نفسه، تفيد التقديرات الحالية أن نصف القوى العاملة في لبنان تقريباً هي عمالة غير نظامية، ولا تتمتع بالحدّ الأدنى للأجور والحدّ الأقصى لساعات العمل والضمان الاجتماعي والحماية من الصرف التعسّفي.
لا شك أن الذروة في الأزمات تمثّل فرصة مؤاتية لنشر الخطاب الشعبوي وحشد التأييد له، إلّا أنها تمثّل أيضاً فرصة لصعود الخطاب المناوئ. ولكن شرط ذلك هو الإقلاع عن إنكار كلّ الآثار السلبية الناجمة عن تدفّق هذا الكمّ الكبير من العمّال والعاملات إلى سوق العمل، والانطلاق في المواجهة من نقد الاقتصاد السياسي وفضح المآرب الحقيقية للقوى المسيطرة على السياسة والمجتمع والاقتصاد.
المشكلة التي نواجهها اليوم، أننا نقف أمام خطابين: مهيمن ومناوئ، لا يوجد بينهما سوى الخواء. فليس بين القوى والحركات، سواء في السلطة أو في الأحزاب أو في المجتمع المدني والنقابات، من يتنطّح الآن للتصدّي لخطاب الكراهية ضدّ اللاجئين والعمّال الأجانب بوصفه أداة «طبقية» تُستَخدَم في واحدة من أخطر ذروات أزمة «النموذج الاقتصادي اللبناني». وهذا الخواء السياسي يتجاوز كثيراً مجرّد «سوء الفهم» المُزمن، بل يتجاوز مسألة اللاجئين نفسها وإشكالية «العمّال الأجانب»، إلى أشكال مختلفة من «القصور» و«التواطؤ» و«الانتهازية» و«النفعية» و«الجبن»، التي جعلت جميع النخب اللبنانية تقريباً تبدو اليوم أسيرة «استبداد الوضع القائم» والشعور العام بالعجز وانعدام الثقة والاعتقاد الراسخ أن الوضع القائم هو حتماً أفضل من انهياره وأن البديل منه هو الأسوأ.
من المؤسف أن نكون اليوم أمام خطاب «شعبوي» خطير، لكنّه يقوم على «مزاعم» تمثيل مصالح العمّال وروّاد الأعمال اللبنانيين، الذين يشكّلون قاعدة اجتماعية واسعة تجد فيه خلاصها من تهديدات انهيار المزيد من القدرة الشرائية للأسر اللبنانية ومخاطر الانزلاق إلى مستويات معيشية أسوأ ممّا وصلت إليه حتّى الآن. ولكن خطاب الكراهية نفسه يسمح بنقل جانب مهمّ من الصراع إلى ميدان العمل، أي الميدان الذي يُنتَج فيه فائض القيمة، والذي يستولي فيه رأس المال على الربح على حساب الأجور، وهو يزعم أن هدفه الرئيس زيادة حصّة أجور العمّال اللبنانيين من ناتج العمل، وإحلالهم في الوظائف والأعمال التي يوفّرها الاقتصاد الآن كما هو. ولكن أي حصّة للأجور؟ وأي وظائف؟ وأي اقتصاد؟ لن يقدّم أي خطاب شعبوي، من أي نوع، إجابات عن هذه الأسئلة، ولكن سيكون مخيِّباً جدّاً ألّا نجدها أيضاً في أي خطاب مناوئ، من أي نوع أيضاً، ولا سيّما الذي ينطلق من موقع سياسي يناهض «الاستبداد» ويدعم حقّ اللاجئين السوريين بالإقامة والعمل في لبنان كشكل من أشكال التضامن والاحتضان وردّ الجميل. مشكلة الخطاب المناوئ أنه، على الرغم من «مشروعيته»، لا يزال يطمس كلّياً ميدان العمل وصراعاته ويتجاهل عوامل التفجير الكامنة فيه، وبالتالي لا يطرح أمام العمّال اللبنانيين أي برنامج بديل يتعلّق بمصالحهم المباشرة وموقعهم في الصراعات الجارية ومستقبلهم القريب والبعيد.