عند الساعة السابعة من صباح كلّ يوم يتوجه صيادو الأوزاعي من عرض البحر إلى المينا، «يبركون» فلوكاتهم ويحملون غلّتهم ويذهبون بها إلى المزاد. هناك يقف الدلّال أبو شهاب خلف طاولة كبيرة من الباطون، غُرزت في أرض غرفة تعجّ بمنتظري عودة الصيادين لشراء السمك. عند الطرف الآخر من الطاولة يجلس الكاتب، ذو النظارات الكبيرة والسيجارة التي لا تنطفئ، يحمل بيده مجموعة من الأقلام لعلّ أحدها لا يخيّب ظنه.

أمامه على الطاولة دفتر كبير، ورزم من النقود مقسّمة بين الفئات المختلفة، موضوعة بترتيب قريباً ما سيتبعثر. يتوسّط الدلّال والكاتب، شاب يقتصر عمله على وضع السمك المُشترى في الكيس وتسليمه للزبون مع الوصْل.
فور الدخول إلى الغرفة، التي يتوسّطها مدرج كبير، تُمحى من مخيلة الزائر الجديد كلّ مشاهد المزادات الفخمة التي علقت برأسه من الأفلام، أو من حفلات الجمعيات لجمع التبرعات الخيرية لمساندة قضية ما؛ تلك التي يلبس فيها المشاركون أفخم الثياب ويتألقون بمجوهراتهم الثمينة. هنا المزاد بسيط، فهو يشكل محطة يومية لكثير من روّاده، بالأخصّ لأصحاب المطاعم ومالكي المسامك في المنطقة، أو لهؤلاء الذين أدمنوا تناول السمك الطازج في أطباقهم شبه اليومية. على مرّ الأيام والأشهر والسنوات تصادق هؤلاء، فحين دخل الحاج مصطفى متأخراً قليلاً عن موعده المعتاد تجمّع حوله أكثر من خمسة من الجمهور المنتظر للاطمئنان إلى صديقهم الصباحي.

أبو شهاب

بشاربه الأبيض الكثيف، وذقنه المشذبة، وطاقيته التي لربما كانت بيضاء يوماً ما، وعيناه الثاقبتان، يراقب أبو شهاب التحرّكات في القاعة قبل دخول أول صياد من الباب المخصص للصيادين إلى الغرفة. خصصت التعاونية مدخلاً للصيادين وآخر للزبائن للفصل بين الشاري والبائع وضمان عدم اختلاطهما قبل إتمام عملية البيع والشراء. يدخل الصياد الأول محملاً بقفص كبير مليء بالسمك، يتوجه نحو الطاولة ويبدأ بإفراغ الحمولة فيشرع السمك الطازج بالحركة ليلتقطه الدلال ويضعه في صينية الميزان. يلعب الميزان القديم وحجارة الوزن على يسار أبو شهاب على الطاولة دوراً مهماً، فهو يستعمله لاحتساب كمية السمك التي ستدخل المزاد.
«ثلاثة كيلو لقّس بمئة وخمسة آلاف» يُعلن أبو شهاب بعد تفحّص السمك. هناك من يصرخ «ستة»، فيما يرفع آخر، واقف أمام الطاولة من الناحية الأخرى، يده في إشارة إلى أنه زاد المزاد ألف ليرة لبنانية أخرى ليعود صاحب الصوت الأول ليصرخ «ثمانية». يسكت الجميع في الصالة ليعلو صوت أبو شهاب أخيراً فيقول «مئة وثمانية آلاف للشاب هنا» مشيراً بنظره إلى الكاتب ليُسجّل «البيعة» ويقبض منه المال. تمت العملية.
«كيلو ونص سلطان ابراهيم» يصرخ أبو شهاب فيبدأ المزاد مجدداً. للسلطان ابراهيم زبائن كثر، يبدأون بالمزايدة ليزيد السعر عن أول صرخة للدلال ثلاثين ألف ليرة لبنانية. يقول أبو شهاب إن «لا أحد يخرج من هنا زعلان أو غير راض، البحر بطعمي الكلّ وبزيد».
في الماضي القريب كان أبو شهاب صياداً، فهو ولد على شاطئ البحر وأكلت الأمواج من «لحم أكتافه» على حد تعبيره، قبل أن يربط حبل مركبه على المينا ويتفرّغ للعمل الذي وصفه بالأكثر راحة. يعرف أبو شهاب نوع السمكة وهي لا تزال في يد الصياد أو في الدلو الذي يحمله، لا يصعب عليه التعرّف إلى أي نوع سمك يسبح على الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط، نظرة خاطفة تمكنه من معرفة اسمها وسعرها المتداول في السوق حالياً حتى أنه يصل إلى تقدير وزن الصينية المملوءة سمكاً قبل وضعها على الميزان.

خبراء المطاعم

على طرف الطاولة الباطونية الكبيرة يقف حسن مستنداً إلى «الدرابزين» ويراقب السمك، يمازح الصيادين والزبائن في الوقت عينه، طرفة من هنا وسلام من هناك فيعتقد من يراقبه أنه فتى جاء ليمضي بعض الوقت ويتسلى. لكن عند التدقيق في أفعال الشاب العشريني ونظراته، وطريقة اختياره للسمك وإصراره على المزايدة يتضح أنه خبير في هذا المجال وينتظر الوقت المناسب للمزايدة.

منذ أكثر من خمس سنوات، بدأ حسن كسب قوته اليومي بالعمل في أحد أشهر مطاعم البلد، ويقتصر عمله على تأمين السمك اللازم للمطعم. يزور الشاب المينا ثلاث أو أربع مرات أسبوعياً، يمعن في النظر إلى السمك ولا يتخلى عن صينية من السمك اختارها حتى لو وصل سعرها إلى ما يزيد عن المعتاد إلا إذا ضمن أن هناك صينية أخرى ستلحقها قريباً.
في المكان العالي الذي اختاره لنفسه، في الوسط بين جانب الزبائن وجانب الصيادين يتمكن الشاب «الحربوق» من مراقبة غلة الصيادين وتحركات الزبائن ما يجعله قادراً على تقدير السلوك الأصح للمزايدة. يعلّق الشاب مازحاً «المطعم هو من يدفع ثمن السمك أما عملي فيقتصر على الحصول على نوع معيّن، فلم أبالي بسعره؟»
لم يكن حسن بمفرده مندوباً عن أحد المطاعم، لكنه ربما الأكثر حنكة بينهم. في وسط الطاولة، أي تقريباً في مواجهة الشاب الذي يتوسط أبو شهاب والكاتب، وقف رجل خمسينيّ اشترى ما يزيد عن العشرين كيلوغراماً من مختلف الأنواع قبل انتهاء المزاد. يملك الرجل مسمكة في أحد الأحياء السكنية المجاورة ولديه زبائنه المعتمدون، هو أيضاً يعرف طلبهم ويعمل جاهداً لتأمين النوع المناسب لكل منهم.

عند بدء المزاد يتحمس كلّ
الحاضرين فتُصبح الأسعار باهظة
يقول الرجل إنه من غير المجدي ذكر أن السمك طازج «لأنه يخرج من البحر مباشرةً أمام أعيننا، لكننا نعمل جاهدين على تأمين أنواع معينة بحسب توصيات الزبائن».
على الطرف الآخر من الطاولة وضعت امرأة كرسياً وجلست تنتظر حتى قبل افتتاح المزاد. هذه المرأة التي قد تكون تجاوزت منتصف الستينيات من العمر تمتلك مسمكة، لكن اللافت أنها لم تشرع في المزايدة عندما بدأ المزاد إنما انتظرت إلى ما بعد انتهاء نصف المدة بقليل وبدأت نشاطها. «عند بدء المزاد يتحمس الكلّ فتُصبح الأسعار باهظة، انا ابنة كار وآتي إلى هنا منذ زمن بعيد. بعد أن يشتري من أتى لتأمين غذاء عائلته، وبعدما يتعب قسم كبير من المزايدة، أبدأ أنا لعلني أحصل على سعر أقل وكمية أكبر». والسبب أن «مسمكتي في حي شعبي ولن أتمكن من الربح إن دفعت هنا الثمن نفسه الذي سأحاسب به زبائني» تقول مبتسمة.
يرفع الدلال أبو شهاب غلة جديدة في الهواء، بحركة نصف دائرية يمرّرها أمام جمهوره ويُعلن السعر. يبدو من المبلغ المرتفع الذي ذكره أنه نوع ممتاز لكن لا شاري، يعود عن الرقم الأول ويعطي رقماً أقلّ، لكن النتيجة نفسها. يسكت قليلاً مفكراً ويصرخ بعدها «مين ابن الحلال يلي فتح الباب»، فتعلو الأصوات بأرقام أقلّ، إنها الجملة المفتاح التي يقولها حين يريد بيع الكمية بالسعر الذي يطلبه الجمهور.
تتجازو الساعة التاسعة صباحاً ولا يزال الصيادون يتوافدون مع صيدهم نحو الطاولة الكبيرة، تضمّ التعاونية الخاصة بميناء الأوزاعي ما يقارب المئة وخمسين صياداً بحسب مدير المزاد علي مقداد. يقسّم هذا العدد الكبير من الصيادين على موعدين لبيع المحصول.

السمك طازج لكن العمل يكون
على تأمين ما يوصي به الزبائن
المزاد الأول يبدأ السابعة صباحاً والمزاد الثاني مباشرة بعد صلاة المغرب، بينما يوم الصياد يبدأ عند الساعة الثانية أو الثالثة فجراً وينتهي عند العاشرة صباحاً، حيث يذهب إلى منزله القريب لتلقي قسط بسيط من الراحة ويعود إلى «فلوكته» وشباكه أو صنارته بعد الظهر لكي يلحق مزاد المساء.

لكلّ حصته

لا يتميّز الصيادون بالسُمرة الداكنة جراء التعرّض الدائم للشمس وبنية مشدودة ما يجعل ملامحهم قوية فحسب، إنما يتمتعون بطيبة كبيرة تظهر عند نقل السمك من كراتينهم الكبيرة إلى الصينية المخصصة للوزن. فبحركة بسيطة، تبدو اعتيادية أطعم أكثر من صياد القطط التي تجمعت حول رزقهم، هؤلاء الذين يحتاجون إلى كل سمكة أمسكتها شباكهم لا يبخلون على تلك المخلوقات الصغيرة التي تنتظرهم. وعند سؤالهم عن الأمر يحاولون التقليل منه بالحديث عما هو أهم، فيحكي أحد الصيادين عن صديقه، الذي يحتاج إلى كل كيلوغرام من السمك ينتشله من الماء، لكنه قدّم هدية لسيدة عجوز في إحدى المرات لم تكن قادرة على شراء أي من عروض المزاد، «هيدا كرم وتواضع الصيادين، البسَيْنات ما منحسبون هودي رفقاتنا» أنهى جملته مقهقهاً.
بعد انتهاء المزاد ومغادرة الشارين والزبائن تتوجه الأنظار جميعها إلى الكاتب، فكل صياد يذهب للحصول على المردود المالي الخاص بـ«البيعة». تتقاضى التعاونية نسبة خمسة في المئة من الثمن المُعلن في المزاد والباقي يعود إلى جيب الصياد. تتقسم هذه النسبة القليلة على تأمين الاحتياجات الأساسية للمزاد، فهي تغطي تكاليف التنظيف بعد انتهاء المزاد مرتين في اليوم، إلا أيام الآحاد يكون المزاد في الصباح فقط، ولدفع رواتب الثلاثة العاملين خلف الطاولة ولصيانة الغرفة كما شرح المقداد.
أما الزبائن، بعد انتهاء المزاد، يحملون الأكياس البلاستيكية السوداء التي تحتوي السمك ويتوجهون نحو طاولة عالية عند المدخل حيث يقف خمسة عمال ممسكين بأداة للبرش. هؤلاء عملهم تنظيف السمك ليتسلمه الزبون جاهزاً للتحضير. كل كيلو من السمك يكلّف صاحبه ألفي ليرة لبنانية للتنظيف ما يوفر مجهود تنظيفه في المنزل.



سمكة ذهبية

بعد وقت قليل على بدء المزاد، وضع أبو شهاب سمكة ذهبية على طاولته الكبيرة. لكن السمكة هذه المرة لم تكن تشبه السمكة الذهبية الصغيرة التي تُباع في أحواض ضيقة وتزيّن الصالونات وتُصبح رفيقة الأولاد في المنزل، إنما سمكة تجاوز وزنها الثمانية كيلوغرامات وبدأ المزاد عليها بمئتي ألف ليرة لبنانية. رغم ذلك، لم يشترها أحد. صرخ أبو شهاب «180 ألف ليرة لبنانية» لكن لا مجيب أيضاً، فمسكها وأعادها.
ما مصير السمكة الذهبية الماردة بين رفيقاتها؟ «هذه ستعود إلى الصياد الذي اصطادها، فهو يدفع نسبة قليلة للتعاونية ويستعيدها ليعود ويبيعها لزبائنه في الخارج». لكن لماذا أدخلها أصلاً إلى المزاد إن كان سيتمكن من بيعها خارجاً وبسعر أكثر إغراءً له؟ «من غير المسموح للصيادين إخراج السمك من الميناء إلا عبر المزاد، حتى ولو كان هذا السمك من صيدهم، فالسمك الخارج من هنا يكون فقط عبر المزايدة القانونية وبإشراف الجميع»، يشرح أحد الصيادين.
هذه التقنية متبعة منذ زمن بعيد لإبعاد أي إمكانية للغش أو لجرّ الصيادين إلى إخراج السمك من دون مروره بالتعاونية. من جهة يسمح هذا الإجراء للإدارة باحتساب الكمية المباعة بطريقة أدق كما يسمح للمزاد بالبقاء على قيد الحياة والاستمرار مع مرور الوقت. لكن الإجراءات تأتي مخففة على الصياد وتُؤخذ بعين الاعتبار أتعابه لذلك يُسمح له في بعض الأحيان بشراء محصوله الخاص والاستفادة منه عن طريق زبائن آخرين من خارج غرفة المزاد.