أيا مستعير الكتاب دعني فإن إعارة الكتاب عار... فمحبوبي في ذي الدنيا كتاب وهل يا ترى محبوب يعار». بيت شعري يلخّص بعضاً من حكاية آية الله المرعشي النجفي مع المخطوطات والكتب، إذ أمضى حياته يجمع النوادر منها حتى أبى أن يفارقها فكانت وصيته أن يدفن بجوار مكتبته المصنفة أولى بين مكتبات المخطوطات في إيران وثالثة في العالم الإسلامي
قم ــ جمانة فرحات
لا يمكن أن تكتمل الزيارة إلى قم من دون المرور بمكتبة آيه الله المرعشي النجفي. منذ اللحظات الأولى لدخول مبنى المكتبة تتملك الزائر رهبة لن يكتشف أسبابها إلّا مع مرور الوقت. عند المدخل يستقبله مرقد المؤسس النجفي بعدما كتب في وصيته «ادفنوني عند مدخل المكتبة كي تطأني أقدام باحثي العلوم الإسلامية ومحققيها كل يوم». لحظات يمضيها الزائر مسترقاً النظر إلى التعلق البادي على أوجه الإيرانيين بصاحب المرقد، قبل أن ينطلق صوت المرشد، مسؤول العلاقات العامة في المكتبة، محمد حسين، داعياً إلى البدء برحلة اكتشاف المكتبة لتبيان حجم ما تكتنزه خزانتها الرئيسية، وإدراك أهمية إرث النجفي الذي قضى قرابة السبعين عاماً من حياته يجمع نوادر الكتب والمخطوطات. ولأجل هذا الهدف، كان الحرمان من الطعام أو السجن مرحباً به في عيون «حافظ التراث الكبير»، كما كان يحلو للعلماء مناداته.
فالمكتبة المصنفة على أنها الثالثة في العالم الإسلامي بعد مكتبتي السليمانية في تركيا ودار الكتاب في مصر، تبلغ مساحتها 4 آلاف متر مربع، ويضم مبناها الرئيسي 7 طبقات، يزورها ما لا يقل عن 4 آلاف عضو يومياً.
ومرّت عملية تجميع محتويات المكتبة بمراحل عدة، انطلقت أولاها في أثناء مواصلة السيد النجفي دراسته للعلوم الدينية في العراق. وبعدما التفت إلى قيمة التراث الإسلامي، شرع في إعداد فهرست للكتب القيّمة والمخطوطات النادرة في جميع مكتبات النجف، ممنياً النفس بإمكانية اقتنائها تدريجياً.
ولم يقف افتقاره للنقود أو منافسة الاستعمار البريطاني عائقاً أمامه. فكان الزهد في الحياة أقصر السبل أمام النجفي لجمع المال، بما يتضمنه من حرمان من الطعام ورهن الملابس والأمتعة الشخصية وبيعها والعمل المتواصل، إلى جانب الصوم والصلاة بالإنابة. وباتت عبارات مثل «اشتريت هذا المخطوط بثلاث سنوات قضاء صلاة عن والد صاحب المخطوط» و«اشتريت هذا المخطوط بقضاء أربعة اشهر صوم نيابة عن والد صاحب المخطوط» و«اشتريت هذا المخطوط بزيارة أمير المؤمنين علي لمدة سنه كاملة نيابة عن صاحبه» مألوفاً تواجدها بخط يده على عدد من المخطوطات التي جمعها بنفسه.
والسيد النجفي، الذي يروى أنه آثر الامتناع عن الطعام أياماً لتوفير ثمن أحد الكتب حتى سقط مغشياً عليه من الجوع، تعرض للسجن عام 1922 في النجف بعدما أصر على الاحتفاظ بمخطوط يدعى «رياض العلماء»، في وقت كان يحاول فيه الحاكم البريطاني، عبر أحد سماسرته، الاستئثار به.
مثابرة مكنته خلال سنوات قليلة من اقتناء مجموعة نفيسة من المخطوطات والكتب النادرة، قبل أن يساعده ذيوع صيته وتعدد العلاقات التي نسجها مع مختلف العلماء في العالمين العربي والإسلامي على فتح أبواب مغلقة أمامه حاز عبرها المزيد من المخطوطات. كذلك لم يحل انتقاله من العراق إلى ايران دون مواصلة مهمته، ليتحوّل منزله إلى مقصد لأساتذة الجامعات، في وقت أجبر فيه النجفي، بسبب ضيق مساحة المكان، على اهداء المئات من كتبه إلى عدد من المكتبات الايرانية لـ«تعميم المعرفة».
ومع ازدياد مقتنياته من الكتب، اختار غرفتين داخل المدرسة المرعشية التي أسسها في إيران عام 1965 لترتيب كتبه ومخطوطاته ليعود ويخصص لها طبقة بأكملها.
مرة جديدة، دفع إقبال الباحثين المتزايد على مكتبة السيد النجفي إلى تشييد بناء منفصل، أنجز في عام 1974 وضم أكثر من ستة عشر ألف كتاب ومخطوط. وبعدما كانت محاولات النجفي في نشر المعرفة فردية الطابع، أصدر الإمام الخميني، الذي ربطته علاقة وطيدة بالسيد المرعشي وكان من بين أوائل العلماء الذين اجتمع بهم فور عودته من منفاه الفرنسي، مرسوماً في عام 1989 دعا الحكومة إلى توسيع مكتبة النجفي على نفقتها. وعلى الرغم من مشاركة «حافظ التراث الكبير» في وضع حجر الأساس للبناء الجديد في ١٣ حزيران ١٩٩٠، فقد عاجله الموت بعد 47 يوماً فقط من إطلاق المشروع، ليتولى نجله محمود المرعشي إدارة المكتبة تنفيذاً لوصية والده.
وتحتوي الخزانة الرئيسية للمكتبة وفقاً لإحصاءات عام 2007، 75 ألف مخطوط مقسمة على 37 ألف مجلد، ويرتفع عددها إلى ما بين ٧٥٠ وألف مخطوطة في العام الواحد.
أما عدد الكتب المطبوعة فبلغ مليون مجلد تتوزع على خمسين لغة. وتضم المكتبة اثني عشر قسماً، بينها مستشفى أو «بيمارستان» الكتاب، حيث تتواجد ثلاثة مخازن مجهزة للتبخير تتولى عمليات الحجر على المخطوطات والكتب والوثائق القديمة على مدى ٧٢ ساعة للقضاء على أي جراثيم أو أمراض يمكن أن تؤدي إلى تآكل الكتاب.
كذلك تضم المكتبة قسماً لترميم المخطوطات والوثائق يشرف عليه فريق متخصص.
وتحتوي خزانة المصورات على أكثر من أربعة آلاف مجلد من مصورات المخطوطات النادرة الموجودة في مكتبات العالم، وبعض مما هو متوفر في المكتبات الإيرانية، فيما تضم خزانة الميكروفيلم أفلاماً لأكثر من أربعة آلاف مخطوطة نادرة موجودة في مكتبات العالم وإيران، إضافة إلى مايكروفيلم لمخطوطات خزانة المكتبة. يضاف الى كل ذلك ميكروفيش للكتب المطبوعة فى العالم باللغات المختلفة. وتشتمل على فهرست لأوائل الكتب المطبوعة في العالم حتى نهاية عام ١٩٩٥، وتبلغ خمسين مليون عنوان بشتى اللغات.
في المقابل، تضم خزانة الوثائق أكثر من مئة ألف وثيقة خطية يعود أقدمها الى خمسة قرون خلت، وتشتمل على قرارات السلاطين والامراء والحكام وأحكامهم، وعلى إجازات الحديث، ورسائل بخطوط كبار العلماء والمراجع الدينيين.
وفي المكتبة أرشيف للكتب الممنوعة، أو «الضلال» كما يطلق عليها، لا يسهل الوصول إليه، إذ لا يسمح سوى للباحثين بتداولها تمهيداً لإعداد دراساتهم حولها ونقدها.
وعلى الرغم من غلبة الطابع الإسلامي على محتويات مكتبة السيد النجفي، تتنوّع مخططوطات خزانة المكتبة ما بين الفقه والأصول والكلام والعقائد والمنطق والفلسفة والعرفان والتصوف والحديث والتفسير وعلوم القرآن والأدب والأخلاق والطبيعيات والتراجم والرجال والدراية والأنساب والعلوم الغريبة والأعداد والفيزياء والكيمياء والرياضيات والجغرافية والنجوم والطب والموسيقى.
وعلى قدر تنوع المخطوطات تتنوع اللغات المكتوبة بها، بدءًا بالعربية التي تحتل الحيز الأكبر ، إلى جانب الفارسية مروراً بالتركية واللاتينية ووصولاً إلى السنسكريتية والتتريه والكجراتية.

الحرمان من الطعام أو السجن كان مرحّباً به في عيون النجفي بهدف اقتناء الكتب والمخطوطات

تحتوي الخزانة الرئيسية للمكتبة وفقاً لإحصاءات عام 2007، 75 ألف مخطوط
ومن أقدم المخطوطات الإسلامية آيات من القرآن الكريم بالخط الكوفي على الرق، وتعود كتابته إلى أواخر القرن الأول والنصف الثاني من القرن الثاني، ويعد من أقدم المصاحف الموجودة في العالم. فضلاً عن أجزاء من المصحف بالخط الكوفي للناسخ الشهير علي بن هلال، المشهور بـ«ابن البواب»، مؤرخة في بغداد عام 1٠٠١، ومجلدين من تفسير التبيان للشيخ الطوسي، ونهج البلاغة للشريف الرضي نسخ في ١٠٧٦ في أقدم مخطوطة موجودة في العالم لهذا الكتاب.
وتحتفظ المكتبة بنسخ نادرة لمخطوطات غير إسلامية، منها أدعية من الزبور كُتبت على جلد الماعز بالخط اللاتيني وتتألف من مئتي صفحة تزن ١٦ كيلوغراماً، أهداها للسيد النجفي عدد من الرهبان أثناء تواجده في أحد مستشفيات إسبانيا بغرض العلاج. كما تضم خزانة المكتبة نسخة من الإنجيل بالخط الأمهري (الحبشي) على الرق من القرن الثاني عشر الميلادي.
أما أقدم كتاب إسلامي تضمه المكتبة فهو «نزهة المشتاق» للشريف الإدريسي في الجغرافيا. كما تضم المكتبة كتاب القانون لابن سينا في الطب، وتحرير إقليدس للخواجة نصر الدين الطوسي في الرياضيات. وكتبت هذه المجموعة بالخط اللاتيني في القرن السادس عشر في روما في الفترة من 1952 إلى 1594.
كذلك تتوفر في المكتبة أقدم نسخة من كتاب نهج البلاغة، الذي جمعه الشريف الرضي في القرن الرابع الهجري، أما مخطوط الجمع بين الصحيحين للحميدي الأندلسي فيعود تاريخه إلى القرن الخامس الهجري.
ونظراً لقيمة تراثها، استطاعت المكتبة أن تنسج علاقات تعاون مع أقرانها من المكتبات العالمية. ووصل عددها إلى نحو 400 مكتبة ومركز ثقافي من بينها مكتبة الكونغرس الأميركي.


عالم من قم