أطلقت المحكمة الدستورية في تركيا، مجموعة أحكام مثيرة للانتباه، كونها تقلِّص من صلاحيات رئيس الجمهورية، رجب طيب إردوغان. وجاءت القرارات في غمرة الحديث عن ورش عمل لإعداد دستور جديد، وفي مرحلة البحث عن «مصالحات» من شأنها أن تنعكس إيجاباً على الوضع الداخلي، في ظلّ الأحوال الاقتصادية المتدهورة وما نتج منها من غلاء وتدنٍّ في القدرة الشرائية للمواطنين. وأبطلت المحكمة، في قراراتها الواقعة في 452 صفحة، عدداً من المراسيم الاشتراعية التي كان قد أصدرها إردوغان منذ عام 2018، واعتبرتها «مخالفة للدستور»، ومن أبرزها:1- تعيين إردوغان رؤساء الجامعات: منح القانون الرقم 2547 الخاص بمجلس التعليم العالي، وفقاً للمراسيم الاشتراعية الصادرة عام 2018، رئيس الجمهورية صلاحيةَ تعيين رؤساء جامعات الدولة، أو تلك التي تتبع الأوقاف. لكن «الدستورية» اعتبرت، بإجماع أعضائها، أن هذا التعديل مخالف للدستور، ذلك أن «تعيين رؤساء الجامعات لا يمكن أن يتمّ بمرسوم اشتراعي صادر عن رئاسة الجمهورية».
2- تعيين حاكم المصرف المركزي: أبطلت «الدستورية» حقّ رئيس الجمهورية في تعيين الحاكم، كما حقه في نقل صلاحية استبدال الأخير من مجلس الوزراء إلى الرئاسة الأولى؛ علماً أن المادة الـ25 من القانون الرقم 1211 الخاص بـ«المركزي»، تنصّ على تعيين الحاكم من قِبَل مجلس الوزراء لمدّة خمسة أعوام، لكن إردوغان عدّل في هذه المادة بنقله صلاحية تعيين الحاكم ونوابه، من مجلس الوزراء إلى رئاسة الجمهورية.
3- تعيين المحافظين ونوابهم: وفقاً لمرسوم عام 2018، يجب أن يكون المحافظ قد تولّى قبل تعيينه منصب القائمقام لمدّة ست سنوات، منها اثنتان في المناطق الشرقية (الكردية إجمالاً) من تركيا. وعدا ذلك، يتم تعيين المحافظين بناءً على اقتراح وزير الداخلية وقرار لمجلس الوزراء ومصادقة رئيس الجمهورية. لكن المحكمة رأت أن هذا المسار لم يُتّبع، في ما عدّته أيضاً «مخالفاً للدستور».
4- أيضاً، قرّرت المحكمة تعليق منح رئيس هيئة التلفزيون التركي، الراتب الذي يناله أعلى موظّف في الدولة، فضلاً عن منْع التلفزيون من تأسيس شركات وبيع وشراء أخرى، أو أن يكون شريكاً فيها، ومن منْح أيّ تلزيم من دون مناقصة.
وتعليقاً على ما تقدّم، اعتبر الكاتب مراد يتكين أن المحكمة «أعادت، في النهاية، رسم حدود صلاحيات رئيس الجمهورية وقراراته التي يصدرها بمراسيم». وفي صحيفة «قرار»، كتب طه آقيول، من جهته، أن «الدستورية وضعت حدوداً لسلطة إردوغان»، مضيفاً أن «نظام الحكومة الرئاسية الذي أُقرّ باستفتاء شعبي عام 2017، وبدأ العمل به عام 2018، منح رئيس الجمهورية صلاحيات لا مثيل لها في العالم الديموقراطي». ووفقاً للكاتب المعروف، فإن «الأمر لا يتعلّق فقط بكثرة الصلاحيات، بل أيضاً بغياب أيّ دور لهيئات الرقابة والمحاسبة التي يتطلّبها النظام الرئاسي. وهذا أمر لا نظير له أيضاً في الأنظمة الديموقراطية. كما أن صلاحية التعيينات لا تخضع لرقابة مجلس النواب، بينما، على سبيل المثال، كل التعيينات التي يقوم بها رئيس الولايات المتحدة تمرّ عبر رقابة الكونغرس».
قرار المحكمة يوجب إعادة النظر بقانونية نظام «حكم الرجل الواحد» الذي اعتمد منذ عام 2018


وتوقّف عند موضوعين قال إنهما الأكثر أهمية: الأول هو تعيين رؤساء الجامعات، والثاني تعيين الحاكم المركزي ونوابه. ففي عهد حكومة سليمان ديميريل - إردوال إينونو، مطلع التسعينيات، صدر قانون بإجراء انتخابات تمهيدية في الجامعات لتحديد رؤسائها المقبلين، وذلك بهدف ألا يطغى على التعيينات مجلس التعليم العالي، كما رئيس الجمهورية، الذي كان، وفقاً للدستور، محايداً. لكن مع محاولة انقلاب 15 تموز 2016، استغلت السلطة، نزولاً عند متطلّبات حالة الطوارئ، هذه الفرصة، وألغت انتخابات رؤساء الجامعات بمرسوم اشتراعي حمل الرقم 676، وصدر في 20 تشرين الثاني 2016. وفي هذا الجانب، يتساءل آقيول عن علاقة التعديل المذكور بالانقلاب والإرهاب؟ والجواب أنه «لا علاقة البتة»، بل إن السلطة استغلّت مرحلة المراسيم الاشتراعية من دون أن تحملها إلى المحكمة الدستورية للبتّ فيها. وبات لرئيس الجمهورية، الذي أصبح في إمكانه أن يكون حزبيّاً وليس محايداً، أن يعيّن رؤساء الجامعات من دون الالتفات إلى وجهة نظر تلك الجامعات. وفي النهاية، ذهب القانون الجديد إلى المحكمة الدستورية التي أبطلته الثلاثاء الماضي، ولكن بعد أن مرّت سبع سنوات تم خلالها تعيين العشرات من رؤساء الجامعات، وفقاً للقانون. وبحسب تبرير المحكمة، فإنه لا يمكن تنظيم «الخدمات العامة» بمرسوم اشتراعي، بل بقانون، وفقاً لما يقتضيه الدستور.
أمّا مسألة البنك المركزي، فقد شهدت عام 2001 في عهد كمال درويش، الذي عُيّن وزيراً للاقتصاد بين عامَي 2001 و2002 وتوفي العام الماضي (2023)، أهمّ إصلاح لها عندما صدر قانون يمنح «المركزي» استقلالية تامة، نصّ أيضاً على أن يكون الحاكم ونوابه أصحاب تجربة مهنية سابقة لا تقلّ عن عشر سنوات. وقال آقيول: «لو أن هذا القانون استمرّ، لما كان لإردوغان أن يعيّن أربعة حكام للمصرف المركزي خلال سنتين بعد عام 2018، ولما كان حاكم المصرف قد أمر بتخفيض الفائدة بناء على أوامر إردوغان. أيضاً، لم تعد مدّة الحاكم خمس سنوات وألغي شرط العشر سنوات خبرة. وكان لإردوغان صلاحية تغيير الحاكم متى يشاء».
وفي أعقاب صدور قرار المحكمة الدستورية، بادر رئيس «حزب الشعب الجمهوري»، أوزغور أوزيل، إلى زيارة رئيس المحكمة، قادر أوزقايا، لتهنئته على القرار، متمنياً في الوقت نفسه ألا يتم الربط بين الأخير وبين الزيارة. ورأت صحيفة «جمهورييات» المعارضة، في عنوانها الرئيسي، أن تركيا أديرت بخلاف القانون على مدى ست سنوات، معتبرةً أن «قرار المحكمة يوجب إعادة النظر في قانونية نظام "حكم الرجل الواحد" الذي اعتمد منذ عام 2018». وإذ يمكن قرارات «الدستورية» أن تشكّل مثالاً، غير أن الأكثر أهميّة من إبطال القرارات المخالفة للدستور، هو التمهيد لتغيير الدستور أو تعديله في اتّجاه الفصل بين السلطات، وعدم حصر كل الصلاحيات بيد رئيس الجمهورية من دون إعطاء دور جدّي لمؤسّسات الرقابة.
ويفترض أن يلقي قرار المحكمة الدستورية بثقله على المناقشات التي ستجري حول الدستور الجديد، إذ لا يُستبعد أيضاً أن يضرب إردوغان عرض الحائط بالقرارات الجديدة، وألا يمتثل لها أو أن يؤجّل العمل على تصحيح المراسيم بقوانين في البرلمان، وهو ما سيلقي ظلالاً كثيفة من الشك على قانونية ما يمارسه المعيّنون كلهم خلافاً لقرار «الدستورية». أيضاً، لا يستبعد أن يلجأ إردوغان إلى خطوة جذرية، أي إلغاء المحكمة الدستورية بشكل كامل، الأمر الذي دعا إليه أخيراً رئيس «حزب الحركة القومية»، وشريك إردوغان، دولت باهتشلي.