لعلّها من المفارقات أن الزيارة الأخيرة للرئيس الإيراني الراحل، إبراهيم رئيسي، كانت إلى آذربيجان المجاورة، فيما كان لمسيّرة تركية دور بارز في عمليات الاستطلاع لاكتشاف موقع سقوط المروحية الرئاسية. وبدا مفاجئاً، أيضاً، أن يقوم رئيسي، رفقة وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، وغيره من المسؤولين المحليين، بزيارة إلى الحدود مع آذربيجان عند نهر آراس، حيث التقى نظيره إلهام علييف ليفتتحا معاً سدَّين مشتركَين، هما «سد قز قلعه سي» و«سد هدافيرين». وتجدر الإشارة إلى أن العلاقات بين باكو وطهران اتّسمت، ولا سيما منذ عام 2020، بتوتّر واضح، إذ إن الحرب التي أسفرت عن هزيمة أرمينيا أمام آذربيجان، أوقعت إيران في حرجٍ، بين دعمها للأولى، وبين رغبتها في عدم خلق أزمة مع الثانية، علماً أن نقطة التحسُّس الإيرانية كانت في اتفاق وقف الحرب في العاشر من تشرين الثاني 2020، والذي نصّ، من بين ما نصّ عليه، على شقّ طريق برّي وخطّ سكة حديد بين نخجوان التابعة لآذربيجان وبين آذربيجان نفسها عبر الأراضي الأرمينية، يعرف باسم «ممرّ زنغيزور». وعنى ذلك، في حال تحقُّقه، إضعاف الموقع الإستراتيجي للجمهورية الإسلامية لعدم مرور خطّ التجارة والنقل من تركيا عبر إيران فآذربيجان، أي فقدان موقعها كمحطة ترانزيت إلزامية. ومذّاك، تصاعد التوتّر بين الجانبَين، لا بل إن الهجوم الذي تعرّضت له السفارة الآذربيجانية في إيران، مطلع العام الماضي، أحدث شبه قطيعة بينهما، بعدما أخلت باكو سفارتها من طاقمها الديبلوماسي، واتّهمت طهران علناً بالوقوف وراء الهجوم. ولم يكن «ممرّ زنغيزور» هو السبب الوحيد للتوتّر، بل إن ثمّة أسباباً أعمق منه، أهمّها تحوُّل آذربيجان، منذ سنوات طويلة، إلى قاعدة أساسية للاستخبارات الإسرائيلية والتجسُّس ضدّ إيران، وهو ما كانت الأخيرة تحذّر باكو منه دائماً.ومن هنا، فإن مشاركة رئيسي في احتفال تدشين السدَّين المشتركَين على نهر آراس، بدت مفاجئة، ولكنها، في الوقت ذاته، مثّلت خطوة جريئة من جانب طهران، وهو ما نُظر إليه في إطار سياسة عدم تعميق الخلافات والبحث عن سبل للتقريب بين البلدَين، علماً أن أجواء الاحتفال طغى عليها الهدوء. وكان رئيسي واضحاً خلال الاحتفال، بقوله إن «البعض لا يحبّ أن يرانا معاً، ولا يريد أن يرى نجاحاتنا المشتركة. لكن هؤلاء ليسوا مهمّين بالنسبة إلينا. المهمّ أن نعمل سوياً كل ما هو خير لبلدَينا ودولتَينا وشعبَينا». أمّا علييف، فرأى من جهته، أن «الاحتفال هذا يشكّل نقطة مضيئة في العلاقات بين البلدَين، وهو مهمّ جدّاً للشعبَين. العلاقات الجيّدة بين بلدينا، شرط لاستقرار المنطقة. وهنالك مشاريع كثيرة مشابهة ستشهدها العلاقات بين بلدينا». وبعد تأكُّد وفاة رئيسي، بعث علييف برسالة تعزية إلى القيادة الإيرانية.
أوزيل: «يجب أن تتوضّح ملابسات الحادثة، لأن كلاماً كثيراً سال حولها»


أمّا بالنسبة إلى تركيا، فقد تولّت طائرة استطلاع من دون طيار من طراز «أقنجي» (المحارب)، وطائرة هليكوبتر ذات رؤية ليلية من طراز «جوكر»، مهامّ البحث عن موقع سقوط المروحية الرئاسية، مستجيبةً لطلب إيراني بالمساعدة. وبالفعل، كان لـ«أقنجي» الدور الحاسم في اكتشاف المكان، الأمر الذي ساعد فرق الإنقاذ الإيرانية في الوصول إلى مكان الحادثة. أيضاً، كان لمهندس الطائرة المذكورة، وأبِ المسيّرات التركية، سلجوق بيرقدار، كلمة وجدانية قبل العثور على رئيسي، تمنّى فيها أن تساعد الطائرة التركية في اكتشاف المكان، وأن يكون الرئيس الإيراني لا يزال حيّاً. وأبرزت الصحف التركية، كما برامج المحطّات التلفزيونية، دور «آقنجي» في هذا المجال، وذكرت أيضاً أن أكثر من 200 ألف متابع عبر برنامج تطبيق «فلايت رادار 24» تابعوا مسار الطائرة في المجال الجوّي الإيراني بحثاً عن مكان الطائرة المنكوبة، وهو الرقم الأعلى لمتابعي طائرة ما في الأجواء العالمية.
وأعرب الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، بدوره، عن شعوره بحزن عميق، معلناً استعداد بلاده لتقديم كلّ مساعدة ممكنة، آملاً أيضاً في أن تأتي أخبار جيّدة عن رئيسي. وبعدما تأكّد خبر وفاة الرئيس الإيراني، ووزير خارجيته، والطاقم المرافق لهما على متن الطائرة المنكوبة، أبرق إردوغان، عبر منصّة «إكس»، متمنّياً الرحمة لرئيسي وأمير عبد اللهيان، ومَن كان معهما. وقال إنه يرسل تعازيه الأكثر عمقاً إلى الشعب الإيراني الصديق والشقيق، وعلى رأسهم السيد علي خامنئي، مبيّناً أن رئيسي شكّل، طوال مدّة حكمه، «عاملاً في الاستقرار والسلم في المنطقة. تركيا، وكما كانت دائماً، ستظلّ إلى جانب الجارة إيران في هذه الأيام الصعبة والمؤسفة».
وفي الموازاة، برز تصريح لافت لزعيم «حزب الشعب الجمهوري»، أوزغور أوزيل، الذي قال إنه «يجب أن تتوضّح ملابسات الحادثة، لأن كلاماً كثيراً سال حولها». وإذ تقدَّم بتعازيه الحارة إلى إيران ومسؤوليها، رأى أوزيل أن «الحديث عن الاحتمالات منذ الآن، له مخاطر كثيرة. ولا بد من التوضيح بالأدلة الملموسة، ومن بعدها يتقرّر كل شيء وفقاً للقوانين الدولية». وأضاف أن «إسرائيل تجاوزت الحدود في ردّ فعلها على هجوم حماس وقتلت أكثر من 35 ألف شخص في غزة في إرهاب دولة غير مقبول. ونحن نريد أن نأمل ألّا تكون للأحداث التي حصلت وتحصل في منطقتنا علاقة بالذي حصل (وفاة رئيسي). نحن هادئون ونتعاطى بدم بارد، ولكن نريد أن تنجلي الحقيقة كاملة». ومن جهتها، كتبت صحيفة «جمهورييات» أن «السيد خامنئي في طريق العمل على تشكيل فريق رئاسي جديد. ولكن لا يمكن توقّع تغيُّر في السياسات. وكما حدث بعد اغتيال قاسم سليماني، فاليوم مع وفاة رئيسي، لا يُتوقّع تغيير الخط الرئيس لسياسات إيران الإقليمية والدولية، والتي يرسم خطوطها الأساسية السيد خامنئي».