بشقّ الأنفس، تمكّن لويس إيناسيو لولا دا سيلفا من الفوز برئاسة البرازيل، وتحييد شخص غريمه، جايير بولسُنارو، من الحُكم، في واحدةٍ من أصعب الانتخابات وأكثرها استقطاباً في تاريخ البلاد. لكن دون العودة المظّفرة هذه، الكثير من الفخاخ المنصوبة بفعل الدفع الهائل وصلابة ما يُطلَق عليه «البولسوناريسمو»، في بلدٍ يعاني أوضاعاً مزرية عزّزتها سياسات اليمين المتطرّف على المستويَين الاقتصادي والاجتماعي. أمام واقعٍ متهالك كهذا، وانقسام البرازيل مناصفة بين اليمين واليسار، يتسلّم لولا بلداً محطّماً ومنشطراً، تسوده الكراهية والعنصرية والخطابات «التكفيرية» التي قادها حرّاس هيكل بولسنارو. وهو إذ يدرك أن مشواره سيكون مليئاً بالمتاعب، يحدوه أملٌ بإعادة اللُحمة بين أبناء المجتمع، وبناء اقتصاد يرتكز على استغلال الثروات الوطنية، ومكافحة الجوع والفقر، وغيرها من العناوين التي تُثقل كاهل وبرنامج السبعينيّ الذي يردّد: «لقد علّمتني أمّي كيف أمشي مرفوع الرأس وكيف أحترم نفسي حتى يحترمني الآخرون»
بالدموع والصلاة، استقبل أنصار مرشّح اليسار البرازيلي، لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الخبر اليقين؛ الزعيم «العمّالي» رئيساً للبرازيل للمرّة الثالثة، في انتصار جدّد ولادة المناضل العنيد الذي تحدّى أسوار السجن وأحكام القضاء المسيّس، مستعيداً حريّته ليُكمل تجريد بلاده من ديكتاتوريةٍ كانت تتعمّق مع كلّ يوم يَحكم فيه جايير بولسُنارو. قالها لولا صراحةً: «أرادوا قتلي وتدميري، فَقَتَلْتُ أوهامهم، وها أنا هنا أَقِف يثبات وقوّة لأعيد إلى شعبي فرحته، ولأحوّل البرازيل إلى أيقونة مشرقة بعدما سادها الظلام». انتصارٌ امتزجت فيه الفرحة مع المرارة، حيث ظَنَّ «أبو الفقراء» أن الجوع قد ولىّ إلى غير رجعة، لكن رُبع مواطنيه عادوا إلى مربّع العَوَز، وفاضت الثروات على أقلّ من 10% من البرازيليين؛ لكن الأخطر ممّا تقدَّم، أن دا سيلفا يكاد يتسلّم بلداً محطّماً ومنقسماً، تسوده الكراهية والعنصرية والخطابات «التكفيرية» التي قادها حرّاس هيكل بولسنارو، فيما الأخير آثر الصمت والعزلة على أن يتقبّل إرادة الناس وخيارهم السياسي.
لم تكن مرارة الانتخابات إلّا مشهداً مختصراً لواقع البلاد المتهالِك؛ فالتنافس الديموقراطي تَحوّل إلى معركة سقطت فيها كلّ المحرّمات، حيث غاب النقاش السياسي، وحلّت محلّه الشتائم والإشاعات. انتخاباتٌ أطاح فيها الخطاب الديني علمانيةَ الدولة، فحَرَمت الكنيسة الإنجيلية بركتها عن السناتورة إليزياني كامبا، بسبب ارتكابها «خطيئة» تأييد لولا، ولم تنبس ببنت شفة حين أَطلقت النائبة «البولسنارية»، كارلا زامبيلا، النار على مواطن، فقط لأنه أَطلق شعاراً مناهضاً لسياسة حزبها. لم تتورّع الشركات، من جهتها، عن ممارسة أكبر عملية ابتزاز وظيفي لإجبار عمّالها على التصويت لمصلحة بولسنارو تحت طائلة الطرد والحرمان من الحقوق، فَسَجّلت «الهيئة العليا للشؤون الانتخابية» أكثر من 1500 دعوى، أكثرها يدور في فلك بولسنارو الضيق. أمّا مواقع التواصل الاجتماعي، فقد فرضت برامج يوميّة؛ حيث شاعت الأكاذيب كالنار في الهشيم، ما أدّى إلى عجز محاكم البلاد عن إحصائها أو منْح حقّ الردّ على مجملها. وهكذا، تحوّلت الانتخابات إلى معركة أجبرت الجميع على الاصطفاف، وسُجِّلت فيها نِسَب الحضور الأعلى منذ انتقلت البرازيل إلى الديموقراطية. وفور صدور النتائج النهائية، سارعت «المحكمة العليا»، برئاسة القاضي أليشندري دي مورايس، إلى إسباغ الشرعية على النتيجة، عاقدةً مؤتمراً صحافيّاً شرحت فيه تفاصيل الرقابة على سَيْر عملية التصويت ونقْل النتائج.
يَعلم دا سيلفا أن نصف البرازيليين أصبحوا في دائرة المعارضة، وأن استشعار هواجسهم أمر ضروري لاستعادة الثقة


يدرك دا سيلفا أن مشواره الرئاسي سيكون مليئاً بالمتاعب. وهو، لهذا، رسم الخطوط العريضة لمُناصريه، بدءاً من العمل على إعادة اللُحمة بين أبناء المجتمع الواحد، وبناء اقتصاد حديث يرتكز على استغلال الثروات الوطنية، وتهيئة فرص العمل وتكثيف البرامج الاجتماعية لمكافحة الجوع والفقر، وصولاً إلى تطوير القطاع الصحي، وإعادة الميزانية المخصّصة لقطاع التعليم والاستثمار في الثقافة. على المستوى الخارجي، وعد الرئيس البرازيلي الجديد بعودة العلاقات الدولية، وفتْح البلاد على الأسواق الخارجية، وقيادة عمليّة التكامل الاقتصادي والثقافي مع الشركاء على امتداد الكرة الأرضية.
يَحفظ «العمّاليون» لشركائهم الفضل في الفوز الذي تحقَّق بشقّ الأنفس؛ فتخطّي الحالة «البولسونارية» المتحالفة مع تكتّل المال والأعمال، بنحو مليونَي صوت (0.89%)، كان مهمّة مستحيلة لَوْلا رافعة المرشّحة السابقة للرئاسة، السناتورة سيموني تابت، في ميناس جيرايس، ومساعدة يسار الوسط في بعض مناطق الشمال، ودعم النُخب الثقافية والفنية والرياضية التي لا تتّفق بالضرورة مع سياسات الحكومات «العمّالية»، لكنها استشعرت خطر مشروع المحافظين الجدد الذين حصدوا كُتلاً وازنة في مجلسَي الشيوخ والنواب، ونيّة بولسنارو إدارة أكبر عملية تعيينات قضائية وإدارية حالَ فوزه في الانتخابات، ما كان سيُفقِد البلاد توازنها الديموقراطي، ويحوِّلها إلى حُكم الحزب الواحد. وكشف مصدر «عمّالي»، لـ«الأخبار»، أن قيادات الحزب تدير نقاشاً داخليّاً يَطال أهمّ التحدّيات المستقبلية، خصوصاً العلاقة مع المؤسسة العسكرية التي رفضت طلب بولسنارو تبنّي التشكيك في نزاهة الانتخابات، والتدخُّل حال فوز خصمه دا سيلفا، وهو موقفٌ قد يفتح الباب أمام تطبيع للعلاقات بين الطرفَين. كما أثيرَت في اللقاءات الداخلية اقتراحات حوار مع الكنائس الإنجيلية، وتبديد هواجسها المتمثّلة في القيم العائلية، وهو ما استدعى تراجعاً عن عدد من القضايا التي كانت تُثار سابقاً، كالإجهاض على سبيل المثال لا الحصر.
تخطّى دا سيلفا أصعب اللحظات في تاريخه السياسي، وبات يَعلم أن نصف البرازيليين أصبحوا في دائرة المعارضة، وأن استشعار هواجسهم أمر ضروري لاستعادة الثقة. ثقةٌ يبدو واضحاً ارتكازها على مثلّث من المطالَبات، متمثّل في مكافحة الفساد، وتنمية الاقتصاد، والحدّ من تفكُّك القِيم الأُسرية. وعليه، فإن «حزب العمّال» بات مُلزَماً بتغيير منهجيّ في سياساته الداخلية، حيث إن النسبة التي حَقَّقت له الفوز، قد لا تشكّل له ضمانة إذا ما تحرّكت المعارضة يوماً في اتجاه مشاريع انقلابية غير مستبعَدة، بعد الضربة القاضية التي سدّدها اليسار إلى اليمين المحافظ ومَن يدور في فلكه.