لم يُخفِ رئيس أركان جيش العدوّ، أفيف كوخافي، خلفية تهديداته الأخيرة لإيران وحلفائها، مُقرّاً بكون تلك التهديدات نتيجة اقتناع راسخ في المؤسّسة القيادية بجدّية التهديدات الإيرانية المقابِلة، وبأن طهران تتمتّع بالإرادة والشجاعة والقدرة على جبي أثمان مؤلمة من كيانه، ردّاً على اغتيال رئيس مركز البحوث العلمية في وزارة الدفاع الإيرانية، محسن فخري زادة. وتصدّى كوخافي بنفسه للردّ على الرسائل الإيرانية الآتية على ألسنة العديد من القادة في طهران، متوعّداً بمهاجمة كلّ مَن يكون شريكاً في «أعمال عدوانية» ضدّ إسرائيل أو أهداف إسرائيلية.ويعكس مستوى الرسائل التي أطلقها كوخافي، واللهجة الصريحة والنبرة العالية اللتين اتّسمت بهما، مقرونتَين بمواقف أميركية مشابهة، حجم الخيبة من الرهان على إمكانية دفع إيران إلى الانكفاء عن التهديد، والعزوف عن إظهار التصميم على ردّ مضاد، انطلاقاً من فرضية حرصها على عدم الوقوع في فخّ الاستدراج في الأيام الأخيرة من ولاية دونالد ترامب. ويعود ذلك التقدير إلى تجاهل الخيار البديل من الردود الدراماتيكية الصاخبة والمباشرة التي قد تتدحرج إلى مواجهة كبرى على مستوى المنطقة وخارجها، والامتناع مطلقاً عما يُعزِّز صورة الردع الذي نجحت إيران في إرسائه وتحت ظلّه بنت قدراتها ودعمت حلفاءها وحَقّقت قفزات نوعية في أكثر من مجال علمي وتكنولوجي واستراتيجي.
ويبدو أن مؤسّسات التقدير والقرار في تل أبيب وحتى واشنطن وقعت في فخّ «المساحة العمياء» التي قد تُصيب كلّ خطّة استراتيجية، عبر تجنّب التفكير في سيناريوات مُحدَّدة، نتيجة «تحيّزات» الجهات المسؤولة، أو نقص معلوماتها، وربّما أيضاً الاستناد إلى مفاهيم قاصرة عن محاكاة الواقع. وهو سرّ الكثير من حالات الفشل التي سقط فيها كلّ منهما في مواجهة أطراف محور المقاومة خلال نحو عقدين. استناداً إلى ذلك، وجدت إسرائيل نفسها أمام واقع مغاير لِما كانت تأمله وتراهن عليه، وبدت حائرة في تقدير توقيت الردّ وساحته وأسلوبه وحجمه.
وفي موقف صريح ومباشر، وبعد لقاء جمعه مع رئيس أركان الجيوش الأميركية، مايك مايلي، تَوجّه رئيس أركان جيش العدو إلى إيران وشركائها بالقول: «سمعنا أخيراً عن تصعيد التهديدات من جانب الإيرانيين. في حال إقدام أعضاء المحور الراديكالي ضمن الدائرة الأولى أو الدائرة الثانية من الدول على أعمال عدوانية ضدّ إسرائيل أو ضدّ أهداف إسرائيلية، سيهاجم الجيش الإسرائيلي بقوة كلّ مَن يكون شريكاً بصورة جزئية أو كاملة من قريب أو بعيد في هذه الأعمال». لم يعتد كوخافي إطلاق تهديدات مباشرة إلّا في المحطّات التي يرى فيها أن هناك خطراً أمنياً يتهدّد كيانه، ويعكس ذلك محتوى التقدير الذي خَلُصت إليه المؤسسة العسكرية إزاء جدّية التهديدات الإيرانية. ويكشف حديثه عن الدائرتين الأولى والثانية المحيطتين بإسرائيل عن جانب من هذا التقدير، في إشارة إلى لبنان وسوريا (الدائرة الأولى) والعراق واليمن (الدائرة الثانية). وفي السياق، أشار المعلّق العسكري في «القناة 13»، ألون بن ديفيد، إلى أن «العراق واليمن يقلقان إسرائيل»، موضحاً أن ما تتخوّف منه تل أبيب أن «يتمّ تنفيذ هجوم على طريقة الهجوم ضدّ شركة أرامكو عبر مُسيّرات دقيقة تعرف كيف تصيب أهدافاً استراتيجية».
يبدو أن مؤسّسات التقدير والقرار في تل أبيب وحتى واشنطن وقعت في فخّ «المساحة العمياء»


مع ذلك، أظهر كوخافي، من خلال توسيع دائرة الاحتمالات، أن لا معلومات موضعية محدّدة لديه، وإنما يدور الحديث عن مروحة مفتوحة ناتجة من مخاوف وتقديرات. وهو ما أكده بن ديفيد أيضاً بالقول إنه «ليس لدى إسرائيل إنذار محدّد أو معلومات محدّدة»، بل «يوجد تقدير عام بأن الإيرانيين يريدون تنفيذ عملية من هذا النوع يطلقون فيها صواريخ مجنّحة ومُسيّرات انتحارية نحو هدف استراتيجي في إسرائيل. وعندما تنظر إلى الشرق الأوسط، فإن المناطق ذات الصلة هي العراق واليمن».
على أن مضمون التهديد ولهجته والجهة التي يصدر عنها تكشف عن مستوى أرجحية حصول مثل هذا الردّ لدى قيادة العدو، الأمر الذي استوجب أن يكون التهديد المضادّ على لسان كوخافي نفسه.
وفي محاولة لاحتواء مفاعيل الرسائل المضادّة التي صدرت على ألسنة قادة الحرس الثوري، عمد كوخافي إلى محاولة تقديم إسرائيل كما لو أنها في حالة توثّب. إذ أعلن أنه تمّ إعداد جميع خطط الردّ على أيّ حرب يمكن أن تواجهها إسرائيل في المستقبل، مشيراً إلى أن هذه الخطط تتضمّن سلسلة طويلة من العمليات المعقّدة في جميع المجالات. وبهدف إضفاء المزيد من الجدّية، تعمّدت المؤسسة العسكرية الكشف، عبر قناة «كان» في التلفزيون الإسرائيلي، عن عبور غوّاصة صواريخ إسرائيلية قناة السويس في طريقها إلى منطقة الخليج في رسالة مباشرة إلى إيران، مع الإشارة إلى أن ذلك تزامن أيضاً مع إعلان وزارة الدفاع الأميركية عبور غوّاصة تحمل صواريخ موجّهة مضيق هرمز إلى منطقة الخليج. وفي هذا المجال، كان للمعلّق العسكري في «القناة 13» تقديره الذي أشار فيه إلى أن «عبور قناة السويس بسلاح قيمته 500 مليون يورو، هو في الواقع الأداة الأغلى لدى الجيش الإسرائيلي، مع وجود كلّ التهديدات ضدّ عبور علني للقناة وفوق الماء، يعني أن هناك حاجة حقيقية»، في تأكيد لارتفاع منسوب المخاوف لدى القيادتين الاستخبارية والعسكرية في تل أبيب.
في الخلاصة، من الواضح أن الرسائل المتبادلة بين قادة الحرس الثوري وقادة الجيشين الإسرائيلي والأميركي عكست مستوى التحدّي، وأظهرت حقيقتين موازيتين: أولاهما أن تل أبيب تلمّست مؤشّرات الخيبة مع رحيل ترامب الذي فشل ليس في إخضاع إيران أو إسقاطها فقط، وإنما أيضاً في استدراجها إلى مفاوضات شكلية؛ والثانية أن إيران نجحت حتى الآن في قلب المشهد في الاتجاه المخالف لما كانت تسعى إليه واشنطن وتل أبيب. فقد كان الرهان على أن تكون طهران، في أعقاب عملية الاغتيال، في موقع المنكفئ الحريص على تجنّب الضربات بأيّ ثمن في الأيام الأخيرة من ولاية ترامب، إلا أنها بدت أكثر تماسكاً وحزماً وتصميماً على الردّ، إلى الحدّ الذي دفع القيادتين الإسرائيلية والأميركية إلى رفع الصوت لتحقيق التوازن على مستوى الصورة، في أبلغ إقرار منهما بأن طهران تملك الإرادة والقدرة على تنفيذ ما تتوعّد به، فيما يبقى تحديد الساحة والأسلوب والتوقيت والحجم رهناً بأكثر من مُحدِّد سياسي وميداني.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا