ولكن باستثناء فروق شخصية بحتة بين الرجلين، فإن نتيجة السباق لم تعد بذات صلة في ظل الأزمة السياسية غير المسبوقة التي تعيشها المملكة المتحدة ــ أي أجواء اقتراب موعد استحقاق المهلة النهائية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والاستقطابات المجتمعية المتصاعدة بين القوميات والطبقات والخلفيات الثقافية. فكلا الرجلين من عتاة يمين الحزب الحاكم، وهما معاديان داخلياً بشدّة لمنظومات الصحة والتعليم العامة التي تقدّم خدمات الحد الأدنى للبريطانيين بالمجّان. كذلك، هما صديقان لطيفان للنخبة المالية وكبار الأثرياء في ما يتعلق بسياسات الضرائب وحماية المصالح الكبرى، وحليفان موثوقان للمشروع الأميركي سواء في نسخته المحلية (بشأن فتح المؤسسات العامة لرأس المال الخارجي) أو الأوروبي (متابعة الدور التاريخي كممثل للأميركي على هذا الجانب من الأطلسي) أو العالمي (كشريك جرائم في ليبيا واليمن وسوريا والعراق وفلسطين وحليف مقرّب من سلالات الخليج الحاكمة). والأهم من ذلك كله، أن ليس لدى أحدهما تصوّر واضح أو برنامج مُعلن لإدارة أزمة «بريكست» المتفاقمة، والتي قد تصل إلى مرحلة الانفجار في 31 تشرين الأول/ أكتوبر، مع انتهاء مهلة التوصل إلى اتفاق بشأن خروج منظّم للمملكة من عضوية الاتحاد الأوروبي. وحتى تأييد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، خلال زيارته بداية الشهر الحالي، لتنصيب جونسون ــ الذي تسمّيه بعض الصحف البريطانية بـ«ترامب الصغير» ــ قد يتغيّر بتغريدة عابرة، بعدما سارع هانت إلى الإعلان عن استعداد بريطانيا للانخراط ــ كما دائماً ــ في هجوم أميركي عاجل على إيران، خلال ساعات قبل أن يغيّر الجانب الأميركي رأيه ويجنح إلى التهدئة.
إن بقي البرلمان فإن نجم المرحلة سيكون جيريمي كوربن
إذن، لا تتمحور المسألة في لندن اليوم بين جونسون أو هانت، بقدر ما هي مرتبطة بسيناريوات ما بعد تولي أي منهما المنصب بحلول 22 تموز/ يوليو المقبل. فحُسبة مجلس العموم بين مؤيد ومعارض لـ«البريكست» لا تزال هي ذاتها التي أوصلت ماي ــ والمملكة ــ إلى حافة الهاوية، بما فيها انقسامات نواب الحزب الحاكم الـ303 أنفسهم. لذا، فإن مسألة انتخابات عامة مبكرة ستكون أقرب من أيّ وقت مضى، الأمر الذي يعني حزبياً ــ وفق «المحافظين» أنفسهم ــ كارثة كبرى بالنظر إلى تراجع التأييد الشعبي لهم إلى مستويات قياسية، حتى في معاقلهم التقليدية، لمصلحة أقصى اليمين.
هناك إشاعات تتردّد في معسكر جونسون، عن أنه فور تولّيه المنصب سيطلب إلى الملكة إليزابيث الثانية تعليق البرلمان، كي يتسنّى للسلطة التنفيذية إدارة مرحلة ما قبل 31 تشرين الأول/ أكتوبر، من دون مشاغبات المجلس المنقسم. ولا يُستبعد، طبعاً، موافقة الملكة (بحكم سنّها وميلها النسبي نحو «بريكست») على ذلك، وإن كانت تلك مخاطرة بشعبية العائلة الحاكمة كلّها، بوصفها اختارت نصف الشعب ضد النصف الآخر. ولكن لا بد من أن بقية عقلاء داخل القصر سيتدخلون لمنعه، لا سيما أنه سيفتح الباب على أزمة دستورية لم تحدث في تاريخ المملكة منذ عام 1649. وقد عُلم بأن فريقاً من داخل حزب «المحافظين» قد هدّد بالدخول في عصيان علني في ساحة البرلمان، إن سعى رئيس الوزراء ما بعد 22 تموز/ يوليو إلى حلّه.
وهكذا إن بقي البرلمان، فإن نجم المرحلة الذي ستصبو إليه الأنظار سيكون جيريمي كوربن، من دون منازع. رئيس حزب «العمال» المعارض وزعيم الكتلة المعارضة في مجلس العموم قد يحاول إحراج جونسون، من خلال طرح مشروع للتصويت على قرار يلزم الحكومة بتنفيذ «بريكست» عبر اتفاق مع الأوروبيين وقبل انقضاء المهلة، وهو قرار قد يجمع غالبية المعارضين، مضافاً إليهم أعداء جونسون في الحزب الحاكم، للتصويت معه، ما سيفتح الباب لإجراء تصويت بالثقة قد يعرّض التحالف الحاكم إلى فقدان الأغلبية البسيطة التي يملكها ويسيطر من خلالها على مقدرات البلاد. وبحسب القانون البريطاني، فإن فشل رئيس الحكومة في الحصول على ثقة المجلس، مرّتين متتاليتين، يُجبره على الاستقالة والدعوة إلى انتخابات عامّة مبكرة، وهو ما قد يحدث تالياً في أجواء التصعيد والاستقطاب المتزايدين، مع اقتراب نهاية مهلة «بريكست». أو لربما يلجأ جونسون بنفسه إلى إجراء انتخابات عامة مبكرة ــ على نسق عام 2017 ــ تستهدف تقوية شرعية حكومة يقودها، سواء لجهة التعاطي مع «بريكست» أو لمواجهة الأزمات الداخلية، وذلك عبر التخويف من حكومة يتولّاها كوربن (الشيوعي الأحمر وحليف ستالين وعدو السامية، وفق صحف لندن).
لكن حسابات مثل تلك الانتخابات ــ بغضّ النظر عمّن يدعو إليها ــ ليست واضحة الآن، وتتسم بكثير من الغموض. ولعلّ نتيجة مثيلتها الأوروبية، بطبعتها البريطانية، التي جرت في أيار/ مايو الماضي وكشفت عن تراجع هائل في شعبية الحزبين الكبيرين («المحافظين» و«العمال»)، يجب أن تُقراً بتروٍّ من قِبل قادة الحزبَين، إذ ربما يستيقظ الجميع ذات صباح، وزعيم حزب «بريكست» نايجل فرّاج (أقصى اليمين) يتسلّم مهام منصبه الجديد رئيساً لوزراء المملكة المتحدة. ستكون تلك بداية نهاية بريطانيا التي نعرف، فيما ستخرج حتماً أقاليم الأطراف جميعها عن طوع لندن، بداية من اسكتلندا وإيرلندا الشمالية، مروراً بويلز وانتهاء بجبل طارق، خلال وقت قياسي قد يسبق سنوية الحكومة الأولى.