يستعرض مازن سعد الدين عضلاته الإخراجيّة عبر عناصر متنوّعة، بدءاً من الغناء مروراً بالديكور الكلاسيكي والمساحة الفارغة وتعدد وظائف الإكسسوار، وصولاً إلى استغلال الصالة والمطربة الافتراضية والممثلين. في مسرحيته «إلى حدا ما» (كتابة رالف س. معتوق) التي تعرض على خشبة «بيريت»، يُبرز سعد الدين قوته في الإخراج من دون الإفراط فيها، رغم استرساله في بعض الفواصل. عمل بمكوّنات متكاملة، نصّاً وإخراجاً وتمثيلاً، تتأرجح أحداثه بين سراديب الماضي المؤلم والذاكرة المتصدّعة. يتمايل كوكتيل المعطيات بين المواقف الكوميديّة والدراميّة من الوزن الثقيل. يصعد الممثل المحبوب عمر ميقاتي إلى خشبة المسرح بعد مرور عشرين دقيقة من العرض، يحيّي الجمهور على طريقة الممثلين المصريين، فينحني لهم بكلّ تواضع، ليبادلوه التحيّة بحرارة. تثير إطلالته فضولاً لدى الجمهور، وهي كناية عن بركة لفريق العمل.تنتقل المشهديّة من ثنائيّة البعد إلى ثلاثيّة، إذ يُفتح الباب على عالم خاص لشخصيّة رسّام يعاني الذهان المزمن، وتُراوح هواجسه بين الماورائيّات والهذيان. يتزامن دخول هذا النزيل مع إزاحة ستار أبيض، يفصل بين عالم اللاوعي والواقع، ويُستعمل هذا الستار الأبيض كحاجز بين عالم الغيب والحاضر، وبين قصّة الفنّان الذي يرسم السيدة العذراء كأسلوب للعلاج بالفنّ (Art Therapy) وعالم المشفى المرير.
في لعبة مرآة بين الشخصيتين البديلة، دارت حوارات بين رالف معتوق وسولانج تراك. يتنقل الممثلان الأساسيان على المسرح، يغضبان، يتخاطبان، يتضاربان، يتناولان مواضيع كثيرة ويتراشقان ثرثرات بنيت عليها صدمات الماضي. ترسم الأنماط المتأخرة تفاصيل شخصياتهما، في لعبة بينغ بونغ سريعة الوتيرة، تتفاقم فيها الأحداث لتمزج بين السرديّة والأفعال. تلعب تراك على اللهجة اللبنانيّة الجنوبيّة، تسيطر في غالبية الأحيان على اللكنة وتؤدي الشخصيّة المعقّدة بجديّة. أمّا معتوق، فيرتكز أداؤه على تشنّجات لا إرادية وعلى رجفة يدين متقطعة تسطّر وتيرة شخصيّة ألكسندر المبتورة. وقد يساعده أنّه هو الذي كتب نصّ المسرحيّة. يتجرأ معتوق ويلعب ورقة الكتابة لممثلين معينين، كما يتطرق إلى نوع مسرح يعتمد على جو قاتم وعلى علاقات إنسانيّة شائكة. المواضيع المتفرّعة مثيرة لفضول المشاهد، يا ليتها طالت وتطورت أكثر. يعالج الكاتب شؤوناً ذات بُعد نفساني، كدفن الابن لمثال الأهل، وهو موضوع لطالما عمل عليه علماء النفس أمثال فرويد ويونغ ولاكان.
يدعونا الكاتب لنكتشف علاقة بنت القرية بالرجل وبجسدها ودخولها شوارع بيع الهوى في بيروت. أمّا الصلة العبثيّة بين مرضى المصح، فتذكّرنا برواية كين كيسي One flew over the cuckoo’s nest حيث لا نعرف من هو المريض ومن هو السليم. يتطرق الكاتب إلى قضايا عدة، ككليشيه الحرب والذاكرة المجروحة. تطالنا المواضيع السيكولوجيّة أيضاً، كعلاقة الأمّ بولدها الذي لم تتركه، بل تذهب معه حتّى مثواه الأخير، فتكبّل هذه الأمّ ابنها داخل حبّها المتزايد. لكن من هو إسكندر ومن هي سوسن؟ ما هي قصة علي الزوج العميل المتواري وسرديّة القناص الذي لم يقنص؟ ما هي المعضلة العصابيّة في البحث عن السلطة الأبويّة المفقودة؟ كل هذه المفاهيم تبدأ، وتتطوّر قليلاً، ثمّ تنتقل إلى مكان آخر. نريد أن نستمتع أكثر. نريد أن يغوص الكاتب في التفاصيل. مع ذلك، يسهل الشعور بشغف المخرج في تركيب الحبكات، فلغة سعد الدين الإخراجيّة، تثير فضول المشاهدين، لكنّها تتركهم جياعاً، فكثرة المؤثرات قد لا تساعد الإخراج. نمط القصف المتكرر يقسم المشاهد مع لعبة إضاءة ومؤثرات صوتية، كعنين طائرات من الحرب العالميّة الثانية التي لا تتلاءم مع أصوات الطائرات النفاثة. ليت هذه الأصوات لم تقطع عمداً، بل توارت تدريجاً لتخلق عالماً سمعياً يسطّر اللعبة الإخراجيّة والجو العام. أثناء العرض، تنطلق مراسم تشييع من داخل الصالة مع تابوت طائر فوق رؤوس المشاهدين، ما يجبر الجمهور على تقبّل محرم الموت. يأتي هذا المشهد هشّاً، كأنه ملصق بالعمل. كما أنّ استعمال المساحة بين الجمهور يليق بالهواة. نشعر بأسلوب معتوق القاتم، الذي يجبرنا على تفعيل آليّة الدفاع كي لا نتماهى مع هول النهاية. يبدأ مشهد «تجكيت» ألكسندر عنيفاً بالركل والسحل، ليبطئ تدريجاً، ثمّ تتفاقم وتيرته، و«التجكيت» هو المصطلح الذي يستعمله نزلاء المصحّة عندما يرغمون على ارتداء قميص العزل المختص للحد من حكة اليدين. نستمع إلى الغناء (ميرا مرسل) وعزف التشيللو (فيكتوريا مرقص)، ما يضفي رونقاً سمعيّاً على العمل، رغم أنّ الفواصل ممطوطة بعض الشيء، لعلّها بهدف سدّ الثغرات الإيقاعيّة.
يتطرق الكاتب إلى قضايا عدة، ككليشيه الحرب والذاكرة المجروحة


على صعيد السينوغرافيا، تنجح لعبة المقعد النقّال، وخصوصاً لدى انفصال المقعد عن بعضه. استعمال المقعد له رمزيّة غربيّة، وإحالة إلى ساحات وحدائق أوروبا، لكنه أتى بسلاسة، محاطاً بديكور شفّاف، يعتمد على الخيش الأبيض، الذي يعطي عمقاً بصريّاً للسينوغرافيا. يذكرنا المقعد بالثنائي في مسرحيّة The zoo story للكاتب إدوارد ألبي، حيث تلتقي الشخصيتان الأساسيتان (بيتر وجيري)، كما يذكّرنا بمسرحيّة «إنّ وأخواتها» التي عمل عليها الراحل ريمون جبارة. يعتمد المخرج على الديكور الفقير، ويحاول اللعب على جو معين من دون كلفة ماديّة عالية، فيستند إلى ميزة «المسرح الفقير» التي وضعها غروتوفسكي وترتكز أكثر على أداء الممثلين. تتوحد الملابس في أسلوبها، وتحمل دوائر وتفاصيل حمراء كالذاكرة المجروحة. يستخدم الممثلون الملابس مسرحيّاً، وأحياناً بعجلة، كالمشهد الأقوى قبل النهاية، إذ لا تلبث الممثلة أن تضع قميص القمع فوق ملابسها، إلّا أن تخلعه. شنطة ألكسندر التي تحمل الذاكرة والأكسسوارات الانتقاليّة المستورة، تفتح كصندوق باندورا وتعطي رونقاً هيتشكوكيّاً. نريد أن نرى المزيد، أن نضيع في شنطة الماضي، بين ثياب الطفولة، ثياب ألكسندر المتناثرة كشخصيته التي لم تتجاوز الفطام.
تتماسك المكونات المسرحيّة وتترابط بشكل متقن. ربما يجب تقليص بعض المؤثرات وإعطاء بعض المشاهد مساحةً أكبر. نتأثر، نقتنع ولا نبقى زوّاراً على باب المصح، بل يدخلنا معتوق عالمه المظلم، فنتوق إلى المزيد. مسرحيّة «إلى حدا ما»، عمل جدّي ومتناسق يستحق المشاهدة.

* كاتب وممثل مسرحي

* مسرحيّة «إلى حدا ما»: حتى 14 حزيران (يونيو) - مسرح «بيريت» (الأشرفيّة ــ بيروت). للاستعلام: 03/596086