استخدم وزير دفاع الاحتلال الإسرائيلي في بداية العدوان الإسرائيلي المدعوم من حكومات العالم على غزة مصطلح «حيوانات بشرية» ليصف الفلسطينيين المقاومين. كان لا بدّ من إيجاد مبرر لآلة القتل، والتمهيد بأريحية ضمير للقتل بدمٍ بارد، بالتالي إنّ استخدام هذا المصطلح هو تسويغ لهذه العملية وتمهيد لها. كيف للأشرار أن يقوموا بجرمهم علناً من دون تدعيمه بأسباب «وجيهة»؟ إنّ تاريخ الإبادات الجماعية، والتطهيرات العرقية، حافل بوجود ماكينة الدعاية التي تسهم في تسريع المجازر وتدفع آلة القتل إلى الأمام.حمم اللهب الحارق تُرمى فوق رؤوس الأطفال. الإقصاء لم يعد ابتعاداً قسرياً، ولا «تشطيب هوية» بل هو موت ويأخذ أقصى مداه في القصف الحاصل اللامتوقّف على مدار الساعة. الجثث والأشلاء، الحروق الخطيرة، والإصابات العصيّة على العلاج، الحصار والتجويع، يحدث كل ذلك وأكثر، وكأنّ باب الجحيم قد فُتح على مصراعيه. لكن الجحيم يُصنع، وهو بحاجة إلى العمل المضني لكي يتشكّل. إنّ الجحيم في غزة هو نتاج صناعة قرون من الاستعمار، والاستعمار قد صنع قروناً من العبودية، إذ أسّسها المستعمر الذي حطّ رحاله في شرق الأرض ومغربها، لتكون يده، وهي يد الظالم، اليد العُليا.


لقد استخدم وزير دفاع الاحتلال ما استخدمه سابقاً كريستوفر كولومبوس عندما اكتشف القارة الأميركية. إن عملية التجريد من الإنسانية (Dehumanization) بدأت بالشكل الذي نعرفه مع كولومبوس منذ ذاك الوقت. تُنزع الصفة الإنسانية عن الشخص أو الجماعة لكي تتسهل عملية إبادتها. لقد صوّر مُستعمرو الأميركيتين السكان الأصليين أي قبائل الأزتيك والمايا على أنهم مجموعة من الغوغائيين الذين يرقصون حول النار. استُخدمت هذه اللغة مع الاستعمار الألماني لناميبيا (أفريقيا) كذلك، ومع الاستعمار الفرنسي على الجزائر، الفرنسي الذي جرّب أسلحة الدمار الشامل في الصحراء الجزائرية أثناء احتلالها. نرى هذه اللغة مع الاستعمار البلجيكي في الكونغو أيضاً، إذ كان ليوبولد الثاني يقطّع الأيادي لإجراء فحوصات مخبريةٍ عليها، فليوبولد الثاني كان يعتقد أنّ الأفارقة هم كائنات غريبة ويستحقون الدراسة لفهمهم ولمعرفة كيفية «تكوينهم». لن نتكلم عن نقل الأفارقة بالسُفن وتصديرهم كعبيد إلى العالم، إذ ليست قصة أوتا بينغا الذي تمّ تقديمه في المعرض الأنثروبولوجي في سانت لويس عام 1904 بوصفه أقرب حالة انتقالية للإنسان، أي إنه لم يبلغ رتبة الإنسان بعد، قبل أن يٌعرض لاحقاً في معرض «الإنسان المثير للجدل» في حديقة الحيوان في برونكس عام 1906 إلّا مثالاً واحداً فاقعاً على سلسلة لا تنتهي من الوحشية الاستعمارية. غرض هذا العرض الوجيز هو لقول الآتي: إنّ الكيان الإسرائيلي هو امتداد استعماري، نسقه يعود شكلاً ومضموناً لقرونٍ إلى الوراء. وإسرائيل «الحاضر» ليست سوى نتاج كلّ ذلك التراكم الاستعماري، أما الدعم الأميركي والأوروبي لها فليس طارئاً، ولا عرضاً، بل هو دعم جوهري، لأن إسرائيل وفضلاً عن كونها نتيجة الاستعمار في بلادنا، فهي الطفلة المدلّلة لهذا الغرب وامتدادٌ لظلمتها، الظلمة التي زعم الغرب أنه تخلّص من سطوتها التي شكلت عصوره.
لا تقع مسؤولية المذبحة على عاتق إسرائيل فقط، بمعنى أنها لا تتحمل مسؤولية ارتكاب ما ترتكبه لوحدها بل معها عالم الاستعمار برمته. لقد فتح الغرب باب الجحيم في غزة، الغرب الذي يرانا منذ الثورة الصناعية مجرد «حيوانات» تستهلك إنتاجه. لربما من الصحيح القول إننا لم نكن بحاجة لما يحدث الآن حتى نعرف حقيقة العالم، وصحيح أيضاً أن ما يحدث الآن ليس بجديدٍ على الإطلاق، فهو مسيرة طويلة من دروب الاستعمار، ومع ذلك فإنّ غزة شهادة حيّة، بالصوت والصورة، لماهية العالم الذي نعيش فيه، ومرآة تعكس حقيقته الأصلية. غزة اليوم هي انكشاف لانحياز المنظمات الدولية، وتواطؤ الأنظمة والحكومات، وثرثرة اتفاقيات السلام وكل ما يتعلق بشرعة حقوق الإنسان. لقد غصّ التاريخ بالجراح، لقد امتلأت صحفه وكتبه بالدم. إنّ التحرير بلا شكّ هو رحلة طويلة يختلط فيها اللحم بالطين وبالدم. رحلةٌ ستفوح منها رائحة الجثث المتحلّلة، غير أنّ ذلك لن يمنع الأحرار من قول «لا» ولا أن يكون طريقهم نحو الانتصار ومرمغة أنف المستعِمر في وحل المستنقعات.