مع أنه من المبكر تقدير حجم الخسائر الاقتصادية التي تسبّب بها الزلزال الأخير، على اعتبار أن عملية إحصاء الأضرار الحاصلة وتقدير قيمتها في المحافظات الأربع وعلى المستوى الوطني لا تزال في بدايتها، وأن الجهد الأكبر مُوجَّه الآن إلى رفْع الأنقاض وإنقاذ الأرواح وانتشال جثث الضحايا، إلّا أن المؤشرات الأوّلية تفيد بأن تلك الخسائر ستكون كبيرة وممتدّة زمنياً. ومردّ ذلك إلى تعدُّد الأضرار وطبيعتها؛ فهي مثلاً لا تقتصر على الأبنية السكنية المتضرّرة بشكل مباشر، وإنما تشمل أيضاً الأبنية غير الآمنة التي تفرض عوامل السلامة إخلاءها من ساكنيها، فضلاً عمّا لحق بالبُنى التحتية والممتلكات العامّة والخاصة، وتوقُّف بعض المنشآت عن الإنتاج، وغير ما تَقدّم من تبعات معتادة جرّاء الكوارث الطبيعية. وبحسب ما يَذكر الاستشاري الاقتصادي، سعد بساطة (حلب)، فإن «هناك نوعَين من الخسائر الاقتصادية للزلزال الأخير: خسائر مادّية وأخرى لا مادّية. وحالياً، ثمّة صعوبة في إحصاء الخسائر المادّية نتيجة المستجدّات المتغيّرة بشكل لحظي أحياناً». ومن بين الخسائر المادّية، يعدّد بساطة، في حديثه إلى «الأخبار»، «وجود عشرات الأبنية المتهدّمة والمنهارة، مئات العقارات المتشقّقة التي تُعتبر خطرة على السكّان، مئات السيّارات التي تحطّمت، الخسائر الفردية في العديد من المنازل، تعرُّض خزّانات الوقود للضرر وتسرُّب محتوياتها، وبعض الحرائق التي نشبت في المنازل». أمّا الخسائر اللامادية، وهي برأي بساطة تحظى بالأهمية نفسها، فتشمل «انكشاف حالة الجاهزية الضعيفة لدى الدفاع المدني، الإطفاء، المشافي والمستوصفات، الآليات والعناصر البشرية والمعدّات، وغيرها».
وتزداد خطورة الخسائر اتّضاحاً مع مقاربة المؤشّرات الاقتصادية والديموغرافية الخاصة بالمحافظات الأربع الأكثر تأثّراً بالزلزال. فمثلاً، تأتي محافظة حلب في المرتبة الأولى لجهة مساهمتها في الناتج المحلّي الإجمالي للبلاد، وبنسبة تُقدَّر بحوالي 16.04% وفقاً لتقديرات عام 2019، فيما تأتي حماة في المرتبة الخامسة بنسبة مساهمة قدْرها 8.78%، واللاذقية في المرتبة السادسة بنسبة قُدّرت بحوالي 7.81%. أمّا إدلب، التي تعيش وضعاً خاصاً جرّاء تقاسُم السيطرة عليها بين الحكومة والفصائل المسلّحة، فإن مساهمتها قُدّرت بحوالي 2.72%.

تقديرات أوّلية
لا يبدو أن هناك قطاعاً سيكون بمنأى عن أضرار الزلزال. فإلى جانب الأبنية السكنية التي تُظهر البيانات الرسمية الأوّلية تضرُّر حوالي 276 بناءً منها أو تهدُّمها بشكل كامل، واضطرار ما يَقرب من 400 ألف شخص إلى ترْك منازلهم؛ إمّا لأنها باتت مُهدَّدة بالسقوط أو لخوفهم من حدوث هزّة زلزالية جديدة، فقد سجّلت المؤسّسات الحكومية تضرُّر العديد من منشآتها، حيث اضطرّت وزارة النفط إلى إيقاف مصفاة بانياس عن العمل ليومَين، فيما أعلنت وزارة التربية تضرُّر قرابة 600 مدرسة حكومية، كما قامت مؤسّسات أخرى بإخلاء مقرّاتها.
وفي هذا السياق، يَتوقّع الأستاذ في كلّية الاقتصاد في جامعة تشرين، ذو الفقار عبود، أن «يصل التأثير الاقتصادي للزلزال في سوريا إلى أكثر من 1.1 مليار دولار بشكل مبدئي، كما من المتوقّع أن تبلغ التكلفة الاقتصادية بشكل عام حوالي 1.6% من الناتج المحلّي الإجمالي للفرد، وقد يستمرّ تأثير هذه التكلفة لمدّة قد تصل إلى 8 سنوات». ويضيف عبود، في حديثه إلى «الأخبار»، أن «الخسائر التي أصابت الأفراد جرّاء فقدان منازلهم وتجهيزاتها، قد تُكلِّف حوالي 300 مليون ليرة سورية لكلّ منزل، وإذا ما قدّرنا عدد الأبنية المنهارة بحوالي 150 بناء تحوي 200 ألف شقّة سكنية، إضافة إلى حوالي 3000 مبنى مهدَّد بالانهيار، فبالإمكان التحدّث عن حوالي 450 مليار ليرة سورية كخسائر فردية فقط،  تُضاف إليها تكلفة صيانة وإصلاح حوالي 30 ألف منزل متضرّر جرّاء الزلزال، لتصل التقديرات إلى حوالي 900 مليار ليرة سورية خسائر للأفراد فقط». أمّا الخسائر الحكومية، فقد تتجاوز هذا الرقم بكثير، «حيث قد تصل إلى حوالي مليار دولار (6.9 تريليون ليرة سورية)».
وممّا يرفع من مستوى المخاوف أيضاً، أن الخسائر البشرية والمادّية لا تزال مرشّحة لمزيد من الارتفاع، مع بقاء الاحتمالات مفتوحة على حدوث انهيارات جديدة في الأبنية جرّاء تصدُّع جدرانها على خلفية الزلزال الأوّل، أو تلك المتضرّرة بفعل المعارك العسكرية خاصة مع استمرار الهزّات الارتدادية، وهو الأمر الذي أكّده وقوع عدّة حوادث انهيار بعد مرور يومَين أو ثلاثة أيّام على وقوع الكارثة، كانهيار مبنى في مدينة حرستا في ريف دمشق مساء الأربعاء الماضي. والجدير ذكره، هنا، أن الحكومة أعطت مهلة خمسة أيّام للفِرق الفنية والهندسية للكشف على الأبنية في المحافظات الأربع، والتأكّد من سلامتها الإنشائية وإمكانية إشغالها من قِبَل السكّان خلال الفترة القادمة.

«الحال من بعضه»
في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة في محافظتَي حلب وإدلب، تبدو الخسائر الاقتصادية للزلزال، هناك أيضاً، أكبر من قدرة المجتمعات المحلّية على تحمُّلها، وذلك في ظلّ تعطُّل مؤسّسات الحكومة عن العمل منذ خروج تلك المناطق عن السيطرة، وتأخُّر وصول المساعدات الإغاثية أو عرقلة وصولها من قِبَل الجانب التركي وبعض الفصائل المسلّحة المحسوبة عليه، فضلاً عن انعدام الإمكانات الاقتصادية واللوجستية والذي كان سبباً رئيساً في ارتفاع أعداد الضحايا الذين لا يزال الكثيرون منهم عالقين تحت الأنقاض لليوم الخامس على التوالي، ومفاقمة معاناة المشرّدين وصعوبة حصولهم على الطعام والدواء ووسائل التدفئة. فمثلاً، في منطقة جنديرس في ريف حلب، تذهب التقديرات الأوّلية إلى أن 70% من منازلها تعرّضت للانهيار فوق رؤوس ساكنيها. وكذلك الأمر بالنسبة إلى مدينة حارم في ريف إدلب، والتي تكشف المعلومات عن انهيار مئات الأبنية السكنية فيها، فيما تسبّبت زيادة منسوب مياه نهر العاصي، أخيراً، في تشريد 7 آلاف شخص، بحسب مصادر إعلامية.
بالنتيجة، مرحلة ما بعد الزلزال الذي ضرب الجنوب التركي والشمال السوري لن تقلّ ألماً وبؤساً عن اللحظات الأولى لوقوعه، خصوصاً في الحالة السورية بحُكم الوضع الاقتصادي المتدهور في جميع مناطق البلاد منذ عدّة سنوات، والأثر العميق للعقوبات الغربية على جميع نواحي الحياة اليومية للمُواطنين، وفوق كلّ ذلك ضعف الاستجابة الدولية لنداءات الاستغاثة التي أطلقتْها المناطق المنكوبة منذ الدقائق الأولى لوقوع الكارثة. باختصار، يمكن القول، إنه على هوْل الأرقام والبيانات المتعلّقة بالحصيلة النهائية للخسائر البشرية والاقتصادية، والتي سوف تُعلَن قريباً، فإن حكايات السوريين الذين باتوا تحت الأنقاض لأيام، ومعاناة من كُتبت لهم النجاة، سيبقى وقعها الأثقل وطأة على الإطلاق.