سوريا: آذار رابع... ولا ربيع | دمشق | في السنوات الثلاث الماضية، «تعرّف» السوريون إلى أسماء أحياء وقرى وبلدات ومدن لم يسمعوا بها سابقاً، ولم يعرفوا بوجودها على خريطة وطنهم. بعضها وصل الى «مرتبة العالمية» بعدما باتت الشغل الشاغل لوكالات الأنباء.
قبل الأزمة، مثلاً، لم تفلح المبادرات الفردية في إحياء ثلاثمئة بلدة منسية في جبل سمعان والزاوية. وحدها الحرب أعادت مناطق «الطريق الروماني» بين حلب وإدلب إلى واجهة الأحداث.
تقول سمر، الطالبة في الشهادة الثانوية: «اسألي السوريين والعرب عن بلدة كفرنبل. ستتباين الآراء بين من يرى أهلها الأظرف خلال عمر الأزمة، ومن يعدونهم الأكثر طائفية وتحريضاً. إلا أن الجميع بات يعرف أن كفرنبل تقع شمال غرب محافظة إدلب مثلاً». والأمر نفسه ينطبق على بنّش وأريحا الإدلبيتين، وعلى قرية البيضا في بانياس، وعلى الكثير من البلدات في ريف حلب وحمص وبقية المدن السورية.
الشهر الماضي، أدمت قلوب السوريين المجزرة التي ارتكبها المسلحون في بلدة معان، في ريف حماه الشمالي الشرقي. للوهلة الأولى، اختلط الأمر على البعض، وظن ان الحديث يجري عن مدينة معان الأردنية، قبل «دراسة» المنطقة جغرافياً وديموغرافياً.
هكذا، منذ اليوم الأول لبدء «الثورة» وُضعت المناطق السورية تحت مجهر الإعلام المحلي والعالمي. هنا بلدة عُرفت بمجزرة، وهناك مدينة اشتهرت بالحصار المضروب عليها، وهناك حي وصل الى «العالمية»، وآخر يُذكَر بتظاهراته وبحملات الاعتقال المتكررة على مفارقه. يذكر أمجد، طالب في جامعة البعث، أن وقوع مجزرة الحولة في أيار 2012، كان بداية عهد معرفته بحدود ريف حمص الشمالي مع مدينة حماه. واستطاع الشاب العشريني أن يميّز بعد هذه الحادثة، بين سكان الحولة وجارتها عقرب، من حيث الطائفة والخط السياسي، إذ شهدت القريتان مجزرتين حوّلتا المنطقة إلى مباريات من القتل والقتل المضاد. المجازر الإنسانية، بحسب أمجد، أكثر ما يمكن أن تشتهر به منطقة سورية.
وعلى المنوال نفسه، نالت أسماء الجوامع السورية، على كثرتها، شهرة جابت الآفاق، وخصوصاً تلك التي مثلت مواقع لصنع الأحداث، أو معالم تتحدّد من خلالها مواقع سيطرة القوى المتناحرة على الأرض. مثال على ذلك، جامع خالد بن الوليد وسط حي الخالدية الشهير في مدينة حمص، الذي سيطرت عليه قوات الجيش السوري قبل أشهر بعد معارك عنيفة، عاد على أثرها الحي المعارض إلى سيطرة الدولة. زياد، متظاهر سابق، يقول إن «الثورة السورية لم تأتِ بالتغيير على صعيد الحرية والتعبير عن الرأي فقط، بل جعلت من بعض المراكز انطلاقة لحراك شعبي واعٍ ومسؤول». يقدّم الشاب مثالاً: جامع الحسن في الميدان، أحد الأحياء الدمشقية العريقة. جامع الحسن، بحسب زياد، كان «محطة أسبوعية للاعتقالات التي يمارسها الأمن بحق المتظاهرين السلميين، الذين لم ينجرّوا إلى التسلّح».
المناطق الساخنة موضع جدل وتضامن السوريين وغير السوريين، كلٌّ بحسب انتمائه الطائفي والمناطقي. مثل كل شيء في عصر الأزمة السورية، وضعت المناطق المتناحرة إنسانية الجميع على المحكّ. السوريون الذين اعتادوا الاختلاف والخلاف على كل شيء، التقوا فقط على دراسة جغرافية المنطقة «الحدَث»، قبل الإدلاء بآرائهم حول ما يجري من مآسٍ. ويشير مازن الى أن الخبرة في المناطق السورية بدأت منذ بدء التظاهرات، وعلى أثرها جرى فرز للأحياء والمدن السورية بين أبناء البلاد. ويرى الشاب العاطل من العمل، أن الفرق بات واضحاً، للسوريين وغيرهم، بين حي الميدان، الذي اشتهر بتظاهراته الأولى، وحي المزة 86 المؤيد للنظام.
عند سؤال عدد من اللاذقيين عن قرية الغسانية، سيُفاجئك الرد بسؤال: أي غسّانية تقصد؟ إذ توجد قرية تدعى الغسانية في جبل الأكراد في ريف اللاذقية، إلا أن أبناء المدينة وريفها يعرفون جيداً أن هُنالك قرية تحمل الاسم نفسه، فاقت «غسّانيتهم» شهرةً، وتقع في ريف القصير بحمص. ويعرف السوريون الكثير عن الأقلية الطائفية التي تسكن القرية المطلّة على بحيرة قطينة، وعن حصارها من قبل مسلحي المعارضة طوال شهور. وقد يشرحون لك كيف كان منفذ القرية الوحيد للدخول والخروج يحتاج إلى قارب لعبور البحيرة.
لم تعد في سوريا «ضيعة ضايعة» ولا بلدة منسية. عرّفت الحرب السوريين الى بلادهم كما لم يعرفوها سابقاً، جغرافياً وديموغرافياً وطائفياً!