خرجت قمّة موسكو بين الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، بنتائج أقلّ بكثير مما كان يُتوقّع منها، ولربما جاز وصفها بأنها «مخيّبة للآمال»؛ كونها فشلت في مقاربة عدد كبير من النقاط الحسّاسة التي غابت عن متن البيان الختامي. القمّة التي استمرّت ساعتين، قبل أن ينضمّ الرئيسان إلى وفدَي الطرفين لمدة أربع ساعات، خرجت ببيان من ثلاث نقاط:1- وقف النشاطات العسكرية في إدلب، بدءاً من منتصف ليلة الخميس ــــ الجمعة.
2- إقامة «منطقة آمنة» على امتداد طريق «M4»، بعرض 6 كلم شمالاً و6 كلم جنوباً، على أن تقرّر القيادتان العسكريتان للبلدين التفاصيل التقنية خلال أسبوع ينتهي في 15 آذار.
3- تسيير دوريات مشتركة تركية ــــ روسية على امتداد طريق «M4» من منطقة ترنبة غربي سراقب إلى منطقة عين الحور غرباً.
ويلاحظ في الاتفاق:
1- غياب أيّ إشارة إلى «المنطقة الآمنة» التي كانت تركيا تطالب بها على امتداد حدود الإسكندرون مع إدلب لجمع اللاجئين فيها.
2- غياب الإشارة إلى نقاط المراقبة التركية المحاصرة وماذا سيحلّ بها.
3- غياب الإشارة إلى التنظيمات المسلحة المصنفة إرهابية وتطهير المنطقة منها.
4- غياب الإشارة إلى آليات وقف النار ومن سيراقبه ويضبطه.
5- غياب أيّ إشارة حتى في تصريحات بوتين وإردوغان إلى «اتفاق أضنة».
6- عدم تحديد وظيفة «المنطقة الآمنة» شمال طريق «M4» وجنوبه.
في المقابل:
1- يثبّت الاتفاق الخطوط الجديدة التي وصل إليها الجيش السوري، ولا يشير إلى انسحابه إلى خطوط ما قبل المعارك، مثلما كان يطالب به إردوغان.
2- يثبّت، من خلال عدم الإشارة، وجود القوات التركية في عمق إدلب وعلى خطوط النار المواجِهة للجيش السوري.
3- يوسّع تمدّد الوجود العسكري التركي جنوباً إلى خط «M4» الذي هو تحت سيطرة المسلحين، ويعطي الوجود العسكري التركي، بالدوريات المشتركة مع روسيا، مشروعية ما، فيما يحرم الجيش السوري من إمكان مواصلة استعادة المناطق المحيطة بالطريق.
من الواضح أن اتفاق موسكو حاول أن يوازن بين مكاسب ميدانية تركية وسورية. لكنه لم يعالج أيّ مشكلة جذرية كانت سبباً للتصعيد العسكري الخطير في الآونة الأخيرة، ما يجعله مجرّد هدنة أو «استراحة محارب» في انتظار جولات عسكرية أخرى قادمة. وعلى ما يبدو، فإن الطرفين التركي والروسي اختارا، لتجاوز الكمّ الكبير من الخلافات بينهما حول المواضيع الأساسية، التوصل إلى اتفاق خجول يتجاهل النقاط الحساسة التي كانت سبباً للتوترات الأخيرة. وهو ما يعكس إلى حدّ كبير استراتيجية روسيا التي لا تتخلى عن حليفتها سوريا، لكنها تراعي في الوقت نفسه وفي كلّ مرّة تطلعات تركيا (المنطقة الآمنة والدوريات المشتركة) حتى لا تخسرها وتدفعها من جديد وبشكل كامل إلى الحاضنة الغربية.
حاول الاتفاق أن يوازن بين مكاسب ميدانية تركية وسورية، لكنه لم يعالج أيّ مشكلة جذرية


كان إردوغان قد ذهب للقاء نظيره الروسي في ظلّ ثلاثة متغيرات ميدانية، وعاملين: داخلي وخارجي:
1- تقدّم الجيش السوري وحلفائه من روس وإيرانيين ومقاومة في الأسابيع الأخيرة على جبهات إدلب، وتحرير كامل المنطقة المحيطة بطريق «M5»، وصولاً إلى جبل الزاوية، في الطريق إلى السيطرة على طريق «M4»، وهي مناطق كانت مشمولة باتفاق سوتشي.
2- دخول الجيش التركي، للمرّة الأولى، بعناصره وعتاده إلى عمق إدلب، وصولاً إلى تشكيل «خطّ نار» على جبهة مقابلة لوجود الجيش السوري. وقد بلغ عدد الجنود والضباط ما لا يقلّ عن 8 آلاف عنصر، فضلاً عن أكثر من 3 آلاف آلية من دبابات وراجمات وصواريخ ومدافع وطائرات مسيّرة مسلّحة وغيرها.
3- دخول الجيش التركي ومعه التنظيمات المسلّحة للمرّة الأولى في مواجهة عسكرية مباشرة جوية وبرّية مع قوات الجيش السوري وحلفائه، وسقوط خسائر كبيرة من الطرفين في ما يشبه حرباً إقليمية مصغرة. وهو ما يؤسّس لمرحلة جديدة من العلاقات الميدانية بين الطرفين لم يعد ممكناً في المستقبل استبعاد تكرارها على شكل حرب أوسع وغير محدودة.
ــــ أما العامل الداخلي، فهو الصدمة التي أثارها مقتل أكثر من 36 جندياً تركياً في ضربة جوية سورية ــــ روسية في 27 شباط الماضي، واستدعت استنفاراً داخلياً للالتفاف حول الجيش التركي، لكن مع عدم قدرة إردوغان على تجيير سقوط هؤلاء لمصلحة مخططاته في سوريا وإدلب، في ظلّ انقسام داخلي كبير، وتحميل إردوغان مسؤولية رمي الجنود الأتراك إلى مهلكة غير وطنية، ووسط العودة الممجوجة إلى نغمة الدفاع عن حدود «الميثاق الملّي» وتخويف الرأي العام التركي. إذ اعتبر شريك إردوغان، زعيم «الحركة القومية» دولت باهتشلي، أن الانسحاب من إدلب يعني الانسحاب لاحقاً من الإسكندرون، وكذلك في ظلّ استحكام «عقدة الأسد» بالمسؤولين الأتراك، حيث قال وزير الدفاع التركي، خلوصي آقار، خلال تعزية لعائلة أحد الجنود القتلى التي سألته: «متى سينتهي يا باشا هذا الأمر؟، إن «القوات التركية ستبقى في سوريا تحارب إلى أن يسقط النظام»، في حين قال باهتشلي نفسه إنه يجب التقدّم وصولاً إلى دمشق وفصل رأس الأسد ووضعه في كيس. في المقابل، سدّد الرئيس السوري، بشار الأسد، سهماً حادّاً للطروحات التركية عندما سأل الأتراك: «متى اعتدت سوريا على تركيا؟»، مؤكداً أن العلاقات بين البلدين محكومة بأن تكون طبيعية بخلاف الخطاب المتطرّف لإردوغان وشركائه في السلطة.
ــــ أما العامل الخارجي، فيتمثّل في فشل إردوغان في حشد الدعم الخارجي له. فلا حلف «شمالي الأطلسي» وقف بقوة إلى جانبه، ولا الولايات المتحدة وافقت على طلبه إرسال صواريخ «باتريوت»، ولا الاتحاد الأوروبي كان متحمّساً لمغامرته في إدلب، بل استاء من محاولة ابتزاز إردوغان للأوروبيين في ملف اللاجئين، والتي تعكس ضعفاً وليس قوة.
محروماً من أوراق القوة، لم يكن أمام إردوغان من ممرّ للخروج من مأزقه سوى ذلك المؤدي إلى موسكو، مع محاولة تحصيل ما أمكن من مكاسب عبر وضع ثقله العسكري في الميدان عشية لقائه مع بوتين. مع «اتفاق موسكو»، تدخل العلاقات التركية مع روسيا وسوريا وإيران مرحلة جديدة من التعقيدات غير الواضحة والمراوحة، في انتظار أوّل تعثر يعيد الكلمة الأخيرة إلى الميدان.