هنا دمشق؛ «شارع اللاهين والعابثين»، ليس عليكم الإصغاء إلى قرع الكؤوس فقط، عليكم أولاً التجوال في كل الأمكنة، بين رسّامين يلاعبون اللون، وموسيقيين يقطّعون أوتار آلاتهم قبل محاولة سابقة بقطع أوتار اليد، وزوّار يأخذون من تشرين الثاني اللطيف النَفَس الأخير مع بدء سريان التوقيت البطيء.من الصعب استيقاف جندي عابر لتسأله: إلى أين نمضي؟ ولكن من السهل أن تمنحه وردة صغيرة بيضاء أو حمراء كما هي عادة العشاق في ذروة المحبة، وأن تُمسِك بذراعه أكثر لتشدّ قبضته وتستوقفه وترجوه أن «أجب عن سؤالي»: متى نتوقف عن المضيّ إلى الغياب؟
توقّفَ للحظة وكان ليدهِ الطيبة أن استرخت فوق كتفي وأجاب بسؤالٍ آخر وكأنه غريب:
- ما هي أحوال بلادكم؟
لقد أكل المتحاربون المتحاربين، ليس هذا فحسب، لقد بدأت الناس تأكل الناس أيضاً، والليرة كذلك!
- (مقاطعاً) ما بها الليرة؟
اغتصبها الدولار
- متى حدث كل هذا؟
قبل ثماني سنوات من الآن، عندما انتصب المتراس على الباب وبدأ ضرب الهواوين واشتبك الكلاشنيكوف والسيمينوف مع الـ«إم سيكستين» على الساحة السورية، مرّ الوقت بعدها ومضى إلى أن وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم، حيث مصير البلاد ما زال مُعلّقاً بين طاولتين تتنازعهما تشابكات الإقليم التي لم تسمح حتى الآن بعقد جلسة سورية لتقبيل اللحى والشوارب، وهي الجلسة الختامية المكررة لكل الحروب عند نهايتها.
لم يبتسم، كان عليه أن يقول لنا إنه يعرف ذلك، ويعرف أننا خسرنا الكثير، ولن يلبث أن يستعيد شيئاً من ماضيه معنا بعد أن أومأ برأسه أن دعينا نكمل طريقنا باتجاه مقهى الروضة قائلاً: الفوضى هي الرأسمال الجديد، والحروب ليست إلا واحدة من تجليات هذه الفوضى التي يجب استثمارها، والعنف الذي يحصل اليوم لابد أنه يشكل جزءاً لا بأس به من مجموع الاستثمار المالي لكل الدول المتصارعة على أرض بلادكم.
(نسأله) مــن أيــن جاء هؤلاء؟
- من كازينو الحرب.
وكيف حجبوا سماءنا بالأكاذيب؟
- بالضجيج.
على سيرة الضجيج، انظر إلى هذه الكراسي المهجورة، هل تعلم أن الضجيج كان يلتهم هذا المكان قبل سنوات من الآن، وكانت «هبّة يك» واحدة من عاشق لرشقات النرد، قادرة على جمع المُخبرين والمثقفين وثرثاري المدينة على طاولة واحدة في هذا الحيّز المكاني الذي يدعى «مقهى الروضة»، المكان الأكثر شهرة وإيثاراً لصانعي خيال المدينة وقد ضاق كثيراً.
- أعتقد أن المكان ضاق أيضاً رغم كل هذا الفراغ وليس الخيال فقط، ليتني أستطيع الهرب.
إلى أين؟
- إلى مكانٍ أنسى فيه كيف ألتفتُ إلى الوراء، إلى مكانٍ لا يستشعر فيه حدسي نحو أي جحيمٍ نذهب، أنا لا أنتمي إلى «هنا»، وهذا الـ«هنا» لا يشبهني، وذاك «الله» ليته يلتفت إلي قليلاً لأخبره عن موت حصاني الوحيد وهبوط قَدَري، من أين لي أن أخرج وأي طريق أسلك؟
- أريدُ ممراً آمناً إلى قلبٍ آمن