لا تربة خصبة للتطرف في بلاد العرقوب الجنوبية. هذه البلاد، المرابطة على سفوح جبل الشيخ وعلى أبواب فلسطين والجولان، تعيش اليوم هدوءاً تحسدها عليه بقية المناطق. فالتنوع الديموغرافي في قرى وبلدات قضاء حاصبيا، لا يسمح لمواقف سياسية ـــ متطرفة أو تحريضية أو لمسّ بجوهر حقيقة التزامهم الوطني الشامل، حيث يخال المستمع الى مواقف وقراءات الناس أنه يعيش في كوكب آخر. فلبنان العرقوب بعيد عن سلفيي طرابلس وعكار ومخيم الشيخ أحمد الأسير.
في العرقوب، لا يسمع الزائر إلا «النكتة» المهضومة على ما آلت إليه الحياة السياسية في لبنان. «يتمسخرون» على كل الجبهات والحركات والتيارات التي تتحدث بنظريات وأفكار سياسية يعتبرونها مسيئة لهم إذا ما تناولوها في نقاشاتهم أو أعطوها وقتاً للحوار. هموم أبناء المنطقة في موقع آخر، في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا المحتلة، وفي قضايا معيشية وإنسانية. حوارات سهرات أبناء العرقوب في شبعا وكفرشوبا وراشيا الفخار والهبارية وكفرحمام والفرديس، وصولاً الى حاصبيا وكوكبا وشويا وعين قنيا وميمس والكفير والماري، لا تتطرق إلا من باب الانتقاد الى خطابات بعض رجال الدين والزعماء السياسيين وقادة التيارات الحزبية. في كفرشوبا، لا يكترثون كثيراً لخطابات الشيخ الأسير، لا بل يعتبرونها مجرد «همروجات» إعلامية لا تقدم أو تؤخر في بلدتهم وفي قرى العرقوب الأخرى. يجد فيها بعض المشتغلين في السياسات المحلية «صراخاً في الهواء لا يعوّل عليه» يقول مختار سابق في البلدة ويضيف: «شو راح يبعلنا تنكات الزيت أحمد الأسير؟». ويختم: «مرق كتير على راسنا. ما حدا راح يقدر يلعب بعقلنا».
رفض كفرشوبا للخطاب السياسي المتطرف ونقده بقسوة، وصولاً الى التهكم عليه أحياناً، لا يختلف في كفرحمام المجاورة التي اعتادت العيش بعيداً عن استخدام الكلام النابي أو التحريضي. فكفرحمام التي لا تعرف سر الكلام التحريضي أو تجييش فريق على آخر، تجد في خطابات بعض أئمة المساجد النارية: «لزوم ما لا يلزم». فالحلقة الشبابية الحوارية العفوية التي انعقدت صباحاً على بيادر «الضيعة» واستكملت حول مائدة غداء و«كاس عرق»، تنتهي بخلاصة يعتبرها الشباب أساسية وهي: «لسنا معنيين بما يجري في صيدا أو البقاع أو طرابلس». وأكدوا أن قضيتهم «في مكان آخر مش محل ما بدّو أحمد الأسير أو داعي الإسلام الشهال». في كفرحمام، للسياسة طقوسها المميزة. تجد حول مائدة الغداء منتمين أو مناصرين للحزب الشيوعي والجماعة الإسلامية وحزب الله وتيار المستقبل والحزب القومي. خليط فريد من نوعه «أسهم في إبعاد كأس التطرف عنا» يقول أبو يحيى الذي يجد في مائدته «سراً سياسياً لن يعرفه قادة البلاد وأحزابها وطوائفها، إلا حين يجلسون بيننا». ويختم: «هذه البلاد التي هزمت إسرائيل تعجز عن هزم قوى التطرف»، فيما يلفت نجيب الى أن مصالحهم الاقتصادية وهواياتهم «المقاومة» تبقى أقوى من خطاب ديني متطرف و«كل لبنان تصارع طائفياً ومذهبياً إلا هذه البلاد».
في شبعا، عاصمة العرقوب، لا يختلف المشهد السياسي عن كفرشوبا وكفرحمام، وإن كان في البلدة بعض الأصوات المؤيدة لخطاب الأسير السياسي والمذهبي. صوت لا يعبر عن حقيقة شبعا وقضيتها الأساس «المزارع المحتلة». يتحدث مختار في ساحة البلدة عن أصداء محدودة للكلام المتطرف، لكنه يستدرك بالقول: «بس نحنا ما فينا نعيش بلا (مدينة) الخيام أو مرجعيون». ويضيف: «ما بعرف اشتري أغراض إلا من سوق النبطية». يحكي المختار عن موسم الكرز القادم ويقول: «يا عمي وين فينا نبيع كرزنا غير بالنبطية والخيام؟». ويتابع محتدّاً: «ما حدا بيقدر يزايد علينا. لا الأسير ولا حتى حزب الله»، معتبراً أن الأسير والحزب «متل بعضن. بس أهل النبطية متل أهل شبعا. منشبه بعضنا كتير».
يؤكد المختار أن غياب تيار المستقبل الفاعل عن الحراك السياسي والاجتماعي في شبعا «سمح لبعض أصوات النشاز بالدخول على الخط». موضحاً: «المستقبل زرع ويحصد الآن». ويختم: «قبل (تيار) المستقبل والأسير، نحن في شبعا لا نعرف التطرف ولا نحبذه. اسأل أهل حاصبيا والخيام».
يتحسرون في شبعا على غياب الصوت المعتدل في لبنان. يجدون في الفعل وردود الفعل ما يقلقهم على قضيتهم وهي«المزارع المحتلة». ويحزنون على غياب تيار المستقبل الذي لم يقدم خطاباً أكثر واقعية واعتدالاً. وهي حال تعيشها بلدة الهبارية التي في تربتها السياسية بعض الوجود لقوى حزبية إسلامية تعبر بوضوح عن اعتراضها على خطاب الأسير. فالجماعة الإسلامية في الهبارية حساباتها «العرقوبية» تختلف عن حساباتها في مناطق أخرى. تؤكد الجماعة دعمها للثورة السورية ضد نظام بشار الأسد، ولكنها لا تتجاهل حسن علاقتها بحزب الله في منطقة القطاع الشرقي من جنوب لبنان. للمنطقة الحدودية حسابات خاصة جداً. يقول أحد المنتمين الى الجماعة الإسلامية في العرقوب والهبارية. ويلفت الى أن قرى العرقوب التي ترفض «كل ألوان التطرف السياسي والديني» يجب أن «تبقى بمنأى عن هذا الخطاب». ويضيف إن للعرقوب «خاصية، ونتمنى أن لا تصلها حدة الخطاب السياسي». جازماً أن في العرقوب «وعياً سياسياً، ولن ينجرّ العرقوبيون خلف كلام يعرفون أنه لا قيمة له».