فهم كيفية وصول القوات اللبنانية إلى تقديرات (مبنية على تخيّلات)، يتناقلها رئيس الحزب ومسؤولوه ونوابه وحلفاؤه، يفترض أن يبدأ بتخيّل يوم في حياة مسؤول جهاز التواصل في القوات شارل جبور الذي يبدأ يومه باتصالين أو ثلاثة، في ظل ضيق دائرة التواصل التي يمكنه التحرك فيها.فعلى مستوى العلاقات الخارجية، لم تبقِ تبعية القوات العمياء للاستخبارات السعودية هامشاً للسفارات الأخرى للاستثمار فيه، فيما تحول شخصية رئيس الحزب سمير جعجع الذي يحاول دائماً إعطاء انطباع العارف بكل شيء، دون إصغائه لمعلومة من هنا وتنبيه من هناك، إلى حد أن أحد السفراء العرب تعمّد أخيراً ذكر حادثة غير صحيحة أمام جعجع ليردّ الأخير: «صحيح... صحيح»! وحتى التقارير العلنية لقوات اليونيفل والمراجعات الرسمية التي تصدر عن الأمم المتحدة لن تجد في معراب من يترجمها أو يدقّق فيها أو يحاول البناء عليها.
وعلى المستوى الأمني، لا علاقة جدية لدائرة التواصل مع استخبارات الجيش وأمن الدولة والأمن العام، وهي شبه مقطوعة مع فرع المعلومات، ما يحول دون وصول تقدير جدّي أو مستقلّ للحالة الأمنية إلى معراب.
وعلى المستوى الدبلوماسي، لا تتلقّى معراب بريد السفراء ولا أي تقدير موقف من سفراء لبنان الأساسيين في الدول المؤثّرة مثل الفاتيكان وواشنطن ونيويورك وباريس والدوحة.
وعلى المستوى الإعلامي، حصرت دائرة التواصل تواصلَ معراب بإعلاميَّيْن اثنين أو ثلاثة ممن يخلطون الأمنيات بالمعطيات ويستعيضون عن تحليل الحدث باختراعات شعبوية لا أساس لها. وإذا كانت الدائرة تعدّ لمعراب تقريراً بأبرز ما تضمّنته الصحف اللبنانية، فإنها على الأرجح لن تتوسّع إلى تقديم مشهد كامل يتضمّن الصحافة الإسرائيلية والعالمية.
لا يكاد ينتهي جبور بالتالي من الاتصال الثالث حتى يتوجّه إلى معراب حيث تسبقه غالباً مديرة المكتب الإعلامي لرئيس الحزب أنطوانيت جعجع، لتقرأ مانشيت «لوريان لو جور»، ومقالاً أو اثنين في صحيفة «النهار» وتغريدات بعض القواتيين، قبل أن يكتمل نصاب العقول بانضمام رئيس حزب القوات، فيتشاركون ما جمعوه من «خبريات» ويحلّلونها للوصول إلى الخلاصات والاستنتاجات اللازمة. وعلى هذا الأساس، يخرج جعجع ليقول بثقة مفرطة، في مقابلة، إن الطائرات الإسرائيلية تفعل كل ما تشاء في السماء اللبنانية دون أن يكون حزب الله الذي يهدّد ويتوعّد قادراً على فعل شيء. والمُلام هنا، على الأرجح، هو جبور الذي فاته، وهو مسؤول دائرة التواصل، أن يخبر رئيسه بأن الحزب أسقط أكثر المُسيّرات الإسرائيلية تطوراً، وأن المقاتلات الحربية تغادر الأجواء اللبنانية لتفادي صواريخ المقاومة.
وإذا كان جعجع معذوراً في عدم الاطّلاع على هذه المعطيات في ضوء انشغالاته وبسبب كسل مسؤول دائرة التواصل لديه، فلا عذر لعضو تكتّله النائب بـ1876 صوتاً تفضيلياً كميل شمعون الذي لم يُعرف عنه انشغال بشيء. فالأخير لم يكتف بالقول، مع حركة استعلائية من يده، إن «لبنان لن يسقط طائرات»، وكأنّ في ذلك عيباً ومنقصة، بل قال مستهزئاً حين سئل عما إذا كان يتابع إسقاط المُسيّرات بأنه يراها «تسقط كـ(طيور) المطوَق». وفي مقابلة أخرى، أكّد شمعون بناءً على معطيات غرفة العمليات في معراب أن «أيام حزب الله معدودة» و«نهايته ستكون وخيمة جداً»، وهو ما لم ولن يقوله أكثر الإسرائيليين حماقة وتطرفاً حتى لا يتحوّل إلى «مسخرة».
المقارنة بين الوقائع التي تؤكدها حتى الصحافة الإسرائيلية وما يقوله شمعون وأمثاله تقود إلى خلاصة وحيدة، وهي أن هؤلاء منشغلون بشيء ما حتى عن مشاهدة نشرات أخبار قناتَي الحدث السعودية والمر اللبنانية، وأنهم مصابون بحالة قصوى من الإنكار تترافق مع عوارض نفسية تجعلهم لا يلتفتون إلى غرابة سلوكياتهم، معتبرين أن سلوكيات الآخرين هي غير الطبيعية. وهذا ما أمكن تلمّسه بوضوح في المهرجان الذي أقامه حزب الكتائب أخيراً، إذ لم يكد النائب سامي الجميل يرى أمامه بضع عشرات يصفّقون له حتى بدأ التهديد، مطالباً الحزب لا بتطبيق القرار 1701 مثلاً، بل بتسليم سلاحه، ما يشير إلى تفاقم العوارض التي يتسبب بها الانكسار الإسرائيلي لهؤلاء، حتى أصبحوا أشبه برجل يرفض تصديق وفاة زوجته فيواصل تحضير طاولة الطعام لها وفتح باب السيارة لها وتخيّلها تجلس إلى جانبه. وهذه الحالة من الإنكار تشكّل خطراً كبيراً على صاحبها حين لا يصدّق إصابته بمرض ويرفض تلقّي العلاج. وفي هذا السياق، تستحق حالة النائب أشرف ريفي الذي حصل على 11583 صوتاً تفضيلياً في طرابلس مقابل 18233 صوتاً لقوى 8 آذار، أن تخضع لدراسة نفسية عميقة لاكتشاف أسباب الهلوسة التي يعاني منها حين يؤكد أنه «الأقوى والأكثر تمثيلاً» في طرابلس، ويكشف «معلومات» عن أن «حزب الله في آخر أيامه».
منذ عام 2005 لم يمر يوم على خصوم الحزب إلا وكان اليوم التالي أسوأ عليهم من سابقه


ومن الصف الأول إلى الصف الثاني: يؤكد النائب العكاري السابق وهبة قاطيشا، بثقة، أنه «لا يمكن لإسرائيل السكوت عن تصعيد الحزب» و«نحن لا شك ذاهبون إلى أعمال عسكرية أكبر بنسبة 70 أو 80%» من دون أن يحدد المقياس الريختري الذي اعتمده للوصول إلى هذه النسب وطبيعة التقارير التي تصله في هذا الشأن. أما النائب القواتي رازي الحاج فقد اتخذ قراره النهائي بـ«مواجهة حالة حزب الله الشاذّة للآخر»، ما جعل الاستخبارات الإسرائيلية تستنفر للسؤال عمن يكون رازي (صاحب الملكية الفكرية لنظرية شحن الحزب برادات وغسالات من سوريا مع الصواريخ لبيعها بأسعار رخيصة في الضاحية)، وكيف سيقوم بما يعجز عنه «أمان» و«موساد» و«شاباك» و«الوحدة 8200» وكل الوحدات الاستخباراتية والقتالية الإسرائيلية الأخرى.
النوايا الحسنة تفترض أن هؤلاء يعيشون حالة إنكارٍ، وانفصالاً تاماً عن الواقع. أما النوايا السيئة فتفترض أنهم ربما يعرفون ما لا يعرفه أحد آخر أو أنهم يحلمون بعودة عقارب الساعة أكثر من 40 عاماً إلى الوراء، حين كانت القوات الإسرائيلية قادرة على احتلال بيروت وتنصيب رئيس القوات رئيساً. والخطير أنهم لا يلتفتون إلى أنهم في كل يوم يؤجّلون التسوية يخسرون أكثر، ليس منذ عام أو عامين، بل منذ عام 2005: مذَّاك، لم يمر يوم على خصوم الحزب إلا وكان اليوم التالي أسوأ عليهم من سابقه. وسواء في الأمن أو السياسة أو العسكر أو غيره، فإن أفضل ما يمكن لفريق مثل هذا أن يفعله هو وقف تدحرجه إلى الخلف عند نقطة ما، ليستعيد بعضاً من أنفاسه ويحاول الصعود مجدّداً، أما محاولته الانتقال مباشرة من التدحرج إلى الصعود فمستحيل وفقاً لكل النظريات. وعليه فإن تسوية بموجب حوار داخليّ - داخليّ مدعوم من الخارج يجلسون فيه حول الطاولة هي أفضل لهؤلاء من تسوية بموجب حوار داخليّ - خارجي لا يكون لهم فيها مكان على الطاولة، خصوصاً أن هذا الخارج لا يهتمّ لهم ولا لمكاسبهم وأعرافهم والمواقع السياسية اللبنانية مجتمعة، بل يهمّه أمن إسرائيل أولاً وأخيراً.
مع ذلك مثل هذه المقاربات لا يمكن أن تسلك طريقها إلى عقل جعجع، لا بسبب كسل جبور ولا بسبب الحالة الذهنية التي يتّصف بها من يعيشون حالة الإنكار، ولكن لأن الخيال مهما اتّسع لا يمكنه تصوّر اجتماع عقلاني في معراب يضع على الطاولة الوقائع والمعطيات لا العواطف أو الأمنيات، ويحدّد موازين القوى الجدية، ليبني على الشيء مقتضاه.