ليس المشهد، وبالرغم من فظاعة المجازر الإسرائيلية الوحشية المرتكبة، والقياسية في أعداد ضحاياها من أطفال غزة ومدنيّيها من النساء والشيوخ العُزّل، وكمّ ونوع الحمم التي سوّت وتسوّي أغلب البنيان الغزاوي بالأرض وربما إلى ما دونها، بالقاتم أبداً. إنه على العكس من ذلك تماماً. فالوقائع الميدانية الجارية في غزة وباقي الساحات المكمّلة، وآثار هذه الوقائع سياسياً وإستراتيجياً، تكشف عن حجم مأزق إسرائيل الذي بات يحاصر وجودها ويهدّدها بقرب... الزوال. وهو الزوال الذي تتراكم المؤشرات إليه يوماً بعد آخر، ونقلة عسكرية بعد أخرى. فالوجود الذي ظنّته إسرائيل أبدياً، بسبب اعتمادها المطلق على الغرب، وثقتها بدعمه المفتوح لها، مقابل تأديتها لخدمات القاعدة العسكرية المتقدّمة ووظائفها، لم يعد ممكناً بعد اليوم. فلا الغرب الجماعي الذي استولد هذا الكيان ومدّه بأسباب الوجود هو نفسه المستفرد بحكم العالم وهندسته، ولا الكيان المثقل بالعجز والفشل، والمحكوم بالتراجع الحامل لبذور الفناء العاجل أو الآجل، هو نفسه. فالكيان الذي بات قاصراً، في الحد الأدنى، عن حماية نفسه، ويستغيث بأعلى الصوت طالباً النجدة الأميركية المباشرة، ويستدعي قادة الغرب إليه للتهويل على المقاومة اللبنانية، هو أعجز من أن يستمر في تأدية الوظيفة الأصلية المنوطة به، وهي الوظيفة التي حملت سفلة الغرب على استيلاده وتأمين ديمومته من أجل النيابة عنه في مهمة تفخيخ الخريطة العربية ومنعها من التوحّد وامتلاك القرار العربي على نحو ما حاوله جمال عبد الناصر، ومن دونها لا معنى له ولا دور. ولعل آخر الوقائع التي تدل على السوء الذي آلت إليه حال الكيان من عجز تاريخي لا سابق له، سواء من حيث الحجم أو المدى، هو هذه «النكبة» التي أصابت عموم الكيان ورعاته، وفشل جنرالاته وقادته المدوّي في الحؤول دون وقوع، أو حتى توقّع الضربة شبه القاصمة التي نجحت غزة، برغم العزل والحصار والتجويع... في تسديدها إليه. بل إن عجزه، حتى اللحظة، وبالرغم من كل ما يبذله عسكرياً وميدانياً وسياسياً، ومعه مَن معه من كامل الغرب والدائرين في فلكه من سفلة الخليج المعلنين كابن زايد أو المستترين كابن سلمان، عن الخروج من المأزق الوجودي الذي أوقعته فيه الضربة العسكرية العبقرية، يفضح إصراره الإجرامي على الإيغال في فصول الإبادة الجارية ضد المدنيين العُزّل، وفي ظنّه الواهم أنه بذلك قد يعثر على ما يساعده في فتح الباب، ولو موارباً، أمام إمكانية استعادته للمبادرة التي نجحت غزة، عبر مقاومتها، في إفقاده إياها مرة واحدة وإلى الأبد، وبات من شبه المستحيل ليس العمل على استعادتها وحسب، بل حتى مجرد التفكير في إمكانية هذه الاستعادة.الأصوات الإسرائيلية (وبعضها «العاقل» نسبياً) تحذّر مما ينتظر إسرائيل إن هي مضت في ما يراه الصحافي وكاتب العمود في «هآرتس» جدعون ليفي «حرباً لا أفق لها»، وتأكيده على الثمن الباهظ الذي سيتوجّب عليها دفعه، والذي سيكون، وفقاً لليفي، «أثقل مما يبدو». وإلى جانب تحذيرات ليفي الكاشفة من مغبّة المضي في مسار لن يفضي إلى تحقيق أيّ من أهداف إسرائيل من هذه الحرب، بل ربما قادت عموم الكيان إلى ما هو أدهى وأمرّ، فإن ثمّة أصواتاً خفيضة وتقول في سرها ما لا يقوله ليفي ولا أمثاله، لكنّ إرهاب الرقابة العسكرية الإسرائيلية الشامل يمنعه من التداول.
المؤشرات المتزايدة على حتمية انضمام الجبهة اللبنانية ومعها باقي الجبهات تدلّ على ما ينتظر إسرائيل إن هي أمعنت في استهدافاتها الإبادية للمدنيين، أو فكّرت في الدخول البري، ويرسم للأهوال التي ستتجرّعها. وهي أهوال لم ولن تخطر على بالها. ولعل تلمّسها الضبابي لهذه الأهوال هو الذي يجعلها على هذا القدر من الارتداع إلا عن استهداف المدنيين وارتكاب المجازر. بل إن هذا الارتداع، الذي صنعته بطولات المقاومين ورسمته دماؤهم الزكية، هو الذي يحرّك سعيها المحموم إلى توسيط العالم لمنع المقاومة اللبنانية من الانضمام الكامل إلى المعركة التي وُلدت من أجلها، والتي لن تتأخر عن خوضها ساعة تقتضي الظروف أو تحين اللحظة، ولو أنها، في الواقع الذي يعرفه العدو الإسرائيلي، كما رجال المقاومة في غزة وكامل فلسطين، وبعيداً عن الإعلام والإعلان، في قلب المعركة منذ اليوم الأول، إن لم تكن على رأسها، إنما ضمن إستراتيجية متكاملة بعيدة عن الاستعراضات المجانية أو الانفعالية، بل وأبعد وأعمق مما يراه بعض الذين طالبوها بالأمس، وعن خبث له امتدادات إسرائيلية غير خافية، بالمزيد وهم يعلمون أن مشاركة المقاومة اللبنانية في المعركة الراهنة أكثر من عضوية.
وبالعودة إلى الأصوات السياسية والإعلامية الإسرائيلية المرتجفة والمرتعدة مما ينتظر إسرائيل، ها هو رئيس حكومة العدو الأسبق، إيهود أولمرت، الذي سبق له أن ذاق مرارة الهزيمة بالملعقة، ينبّه من مخاطر التفكير بالهجوم البري، محذّراً من ملاقاة الجنود الإسرائيليين لـ «كل ما يمكن تخيّله وما هو أسوأ». أما رئيس الموساد الأسبق، أفراييم هاليفي، فينصح بـ«الكفّ عن أسلوب التبجّح والتهديدات الفارغة»، مؤكداً أن «من يتحدث عن سحق حماس لا يعرف عمّا يتكلم»... إلى غيرها من الأصوات التي سبق لها أن اكتوت بنار المقاومة من سياسيين وأمنيين إسرائيليين يرفعون الصوت محذّرين مما ينتظر إسرائيل من ويلات لا يمكن لأحد توقّعها إن لم تسارع إلى البحث عن مخارج بعيداً عن الجنون الدامي. فهاليفي نفسه، المسكون بالهلع مما ينتظر إسرائيل، يدعو إلى وضع «هدف واقعي»، والمسارعة إلى «وجوب التفاوض» ومحاولة «الوصول إلى تفاهمات».
إن الإصرار الإسرائيلي على المضي في الحرب المفتوحة على غزة، وعلى مفاقمة ارتكاباتها الإبادية، يحمل في واحد من أبعاده حاجة نتنياهو الماسّة إلى تأجيل محاسبته عن مسؤوليته، (ولو أنها في الواقع جزئية لأن الفشل يتجاوز شخصه ليشمل كامل بنى الكيان الذي دخل في مرحلة العد العكسي لوجودٍ آن له وفق معادلات التاريخ والجغرافيا أن ينتهي وأن يُشطب من الوجود)، عن الإخفاق العسكري وعجز جيشه عن معرفة ما كانت تخطّط له حماس، وهو ما يلتقي مع مصلحة جو بايدن المأزوم انتخابياً وسعيه إلى تقديم منجز ما يرفع من حظوظه في إعادة الانتخاب ويعزّز من أوراقه المتساقطة في أوكرانيا أو في بحار الصين.
لم تعد فلسطين (التاريخية) بالبعد الذي كانت عليه قبل طوفان غزة العظيم. بل لم يسبق لفلسطين أن كانت بهذا القرب مثلما هي عليه اليوم. إنها، اليوم، ومن بعد «الطوفان» المقاوم الذي طهّر أجزاء غالية من الأرض المحتلة وغسل ترابها أقرب من أي وقت مضى إلى أهلها الذين تاقوا إليها وتاقت إليهم.
فلسطين ما بعد ٧ تشرين هي غيرها التي كانت قبل ذاك التاريخ الحاسم. وما كتبته البنادق والإرادات الفولاذية الصانعة لها والعقول الفذّة التي أبدعتها لا يستحيل محوه فحسب، بل يستحيل تجاهله كما يستحيل القفز فوقه بعد اليوم. ولأن الحال كذلك، وهو فعلاً كذلك، فإن عقارب ساعة المقاومة لا يمكن لها أن تعود إلى الوراء، ولا يمكن لأيّ قوة أن تفرض عليه ذلك. قد يحصل أن تتوقّف لبرهة من الوقت، وقد يحصل أن تتمهّل أو تراوح في مكان ما، إلا أن الأكيد أنها لن تتراجع.
غزة ما بعد ٧ تشرين ومعها كامل المنطقة العربية وأنحاء كثيرة من العالم في خضمّ تاريخي واعد وواعد جداً.
إنه وعد سيّد المقاومة ووعيدها. وهو الخطاب الفصل الذي بشّرنا وبشّر أهل فلسطين به.