في عيد العمال وذكراه المجيدة والعطرة في تاريخ البشرية، نتوجّه بتحية اجلال واكبار الى شهداء الطبقة العاملة وحركتها النقابية للتضحيات العظيمة التي قدّمتها في ساحات النضال في كل بلدان العالم، بما فيها خصوصاً لبنان.إن ما يميّز الإحتفال بالعيد هذا العام في لبنان هو تزامن تظاهرة التاسع من أيار، التي دعا اليها الحزب الشيوعي اللبناني مع قوى سياسية وطنية تقدمية وهيئات واتحادات نقابية واجتماعية مستقلة، مع اليوم العالمي للانتصار على الفاشية، مما يجسّد وحدة كفاح شعوب العالم وحركاتها العمالية وقواها اليسارية ضد رأس المال والنيوليبرالية وكل أشكال العنصرية والفاشية والطائفية التي طالما استخدمتها الأمبريالية في شنّ الحروب واشعال الفتن وزيادة استغلال الشعوب ونهب ثروات بلدانها.
وما يميّز الاحتفال أيضاً أنه يأتي بعد تسعة أشهر من انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب، وهو الزلزال الذي أسال بغزارة دماء عمال المرفأ وموظفيه ورجال الدفاع المدني وأهالي الأحياء والمؤسسات المتاخمة، وجعل أبنية المدينة ومنازلها وإرثها الثقافي عرضة للتصدّع والخراب والدمار في واحدة من أفظع جرائم العصر. وليكن عيد العمال العالمي في ظروف البلد االراهنة مناسبة للانتصار لدماء عمال المرفأ ولشهداء الطبقة العاملة اللبنانية وحركتها النقابية، وللتعهّد بمتابعة المسيرة وتصعيد الانتفاضة ومحاسبة منظومة الإجرام والاهمال ونهب المال العام، التي أفقرت اللبنانيين وأوقعتهم في أسر البطالة والجوع والهجرة.
وهي كذلك مناسبة نؤكد فيها على الدور الطليعي للعمال والأجراء، ونشدّد فيها العزم على تحرير الحركة النقابية من سيطرة السلطة المتنفّذة، وصولا الى تحويلها الى حركة مستقلة تناضل من أجل حقوق العمال والفئات الشعبية والشرائح الاجتماعية صاحبة المصلحة في الخلاص من منظومة الرأسمال الريعي. كما نؤكّد في هذه المناسبة على خوض معركة التغيير من أجل إنقاذ لبنان وبناء الدولة العلمانية، دولة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والاقتصاد الوطني المنتج.
إننا ندرك جيّدا أن متابعة هذه المسيرة النضالية ليست بالعملية البسيطة أو السهلة وليست معبّدة بالرياحين، بل تنطوي على صعوبات وتعقيدات وتضحيات لا حدود لها، لا سيما في ظل الظروف الخطيرة التي نعيشها حيث نشهد مرحلة العجز المزدوج للمنظومة الحاكمة: عجز محكوم من جهة بعوامل داخلية تتمثل في عدم قدرة المنظومة الحاكمة على معالجة انهيار نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي بنت عليه سلطتها ومصالحها الطبقية؛ وعجز محكوم من جهة ثانية بعوامل خارجية ناتجة عن فقدان مرتكزات التسويات الخارجية بين الأوصياء القدامى والجدد وتداخل وتصادم مصالحهم، وهو الأمر الذي ينطبق على العديد من «المبادرات» الخارجية، بما فيها زيارة وزير الخارجية الفرنسية لودريان الى بيروت هذا الأسبوع. ونعيد التأكيد في هذا الإطار على أن المنظومة الحاكمة لطالما استندت الى هؤلاء الأوصياء في مراحل متعاقبة وقدّمت لهم اوراق اعتمادها، من دون التفريق بين هوية هذا الوصي أو ذاك، طالما بقي خضوعها التبعي للوصيّ الخارجي يخدم عملية تأبيد نظامها وهيمنة سلطتها.
هي اذن بالنسبة الى أطراف المنظومة السياسية والمالية والروحية مرحلة انتظار وهروب ممنهج الى الأمام، تعمل خلالها هذه الأطراف على تدفيع اللبنانيين المزيد من الأثمان من خلال تسويقها لرهانات خاطئة تهدّد مصير لبنان ووجوده وكيانه، وتتوزّع حول مشاريع الحياد والتدويل والمثالثة والفدرلة التي تتماشى كلّها مع المشروع الأم الرامي الى تفتيت المنطقة. كما أنها مرحلة اقتراب رفع الدعم عن المواد الأساسية خلال شهري أيار وحزيران مع استمرار التراشق حول البطاقة التمويلية، ما يهدد بقرب حصول «الارتطام الكبير»، وما يحمله من أخطار بمضاعفة حدّة التقشف والركود الأقتصادي والافقار والبطالة والهجرة وتبخر الرواتب والأجور والضمانات الاجتماعية والصحية وتدهور الخدمات العامة وارتفاع تكاليف الكهرباء والمياه والنقل والسكن والتعليم. وتضاف الى هذا كلّه، استمرار مفاعيل جائحة كورونا فضلاً عن تبعات قرار السعودية مؤخّراً بإيقاف تصدير المنتجات الزراعية اللبنانية اليها بعد اكتشاف عملية تهريب الكبتاغون في الرمّان الملغوم.
إنّ ما تقوم به المنظومة الحاكمة للتهرّب من كشف الحساب وتسديد الثمن، يدفع البلد نحو الفوضى والجوع والصدامات الطائفية المتنقلّة في الداخل، كما يدفع في الوقت ذاته المنظومة الحاكمة نحو تقديم المزيد من التنازلات للخارج الاقليمي والدولي - بما في ذلك العدو الصهيوني - تأميناً لإعادة انتاج نظامها وسلطتها. ويعبّر هذا المنحى تماماً عن واقع تاريخها الحافل بالارتهان للخارج بدل تقديم التنازلات لشعبها في الداخل.
لقد رفعت سياسات ورهانات المنظومة الحاكمة منسوب التدخلات الخارجية - وبخاصة الأميركية - الى أقصاها عبر تشديد الضغوطات المالية والنقدية وزيادة الاجراءات العقابية على لبنان والتحكّم في تشكيل حكوماته، والانحياز الى جانب الكيان الصهيوني في ترسيم حدود لبنان البحرية الجنوبية كما جرى في الجلسة الخامسة من جلسات التفاوض. وتتحمّل المنظومة الحاكمة تبعات الاستمرار في التفاوض على ترسيم حدود لبنان (المرسّمة أصلاً في اتفاق الهدنة منذ عام 1949) في ظرف يعاني فيه لبنان من حالة ضعف وانهيار شامل ومن خلافات تعصف بين أطراف المنظومة الحاكمة حول وجهة تعديل المرسوم 6433 والخط التفاوضي، وآخرها - وهو الأخطر - ينحو في اتجاه نقل المفاوضات الى المستوى السياسي، الأمر الذي سبق وحذّرنا منه كونه يحوّل هذه المفاوضات الى مدخل للتطبيع.
إن لبنان يعيش أسوأ حالات ضعفه، سياسياً واقتصادياً، وسط متغيّرات بالغة الأهمية طرأت وتطرأ على مستوى العلاقات السياسية والمفاوضات الجارية بين دول الاقليم على إيقاع المفاوضات الأميركية - الايرانية ونتائجها التي بدأت تظهر بوادرها في الموقف الخليجي والسعودي المستجد حيال مسألة التقارب مع إيران وسوريا، وفي دعوة سوريا للعودة الى الجامعة العربية واحتمال فتح السفارة السعودية في دمشق، بعدما كثر فتح سفارات خليجية في «تل أبيب» إثر حفلات التطبيع مع الكيان الصهيوني.
لقد تمخضّت انتفاضة 17 تشرين عن تصاعد غير مسبوق في مستوى الوعي الشعبي. وظهر تأثيرها مؤخّرا مع فشل التحركات الغوغائية (قطع الطرقات) التي دعت اليها أطراف المنظومة الحاكمة، حيث برز ضعف المشاركة «الشعبية» فيها رغم كل التعبئة الطائفية، من دون أن يعني ذلك انتقال الجماهير من ضفّة الى ضفة أخرى. كما سجّل أيضا تأثير الانتفاضة على مستوى القضاء من خلال مواقف متميّزة للقاضيتين غادة عون وأماني سلامة، بعد فشل القضاء حتى تاريخه في اصدار حكم واحد في جريمة واحدة من الجرائم المرتكبة من قبل منظومة الفساد.
وفي مواجهة تسارع وتيرة انهيار النظام الزبائني والتفكك التدريجي لمؤسسات الدولة وتعطل وظائفها وخدماتها وانتقال قرارها مباشرة الى ممثلي الطوائف وأحزابها المتراجعة، لا بد لنا من ان نتهيّأ ونضاعف مساهمتنا في استيلاد المشروع الجديد، مشروع بناء الدولة العلمانية الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. والمقصود هنا، هو تعزيز قدرتنا الذاتية على ربط العلاقة المثلّثة الأضلاع بين العلمانية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، بعضها ببعض، باعتبارها قضية واحدة لا تتجزأ، على أمل التمكّن من تعطيل الوظيفة السياسية للطائفية والافقار والتبعية، ومن تشكيل أساس يبنى عليه الائتلاف الوطني الواسع كأداة لمشروع سياسي. ويقدّم هذا المشروع نفسه مشروعاً بديلاً عن المنظومة الحاكمة، ويتولّى مسؤولية قيادة الصراع معها ويخلق موازين قوى جديدة تفرض تشكيل حكومة إنقاذ وطني ذات طابع انتقالي بصلاحيات تشريعية استثنائية من خارج المنظومة الحاكمة. وعلى هذا الأساس، جاءت ورشة الحوار الاولى في 24 نيسان الماضي، وبموازاتها لقاءات التأسيس لاطلاق «التحالف الاجتماعي» من أجل دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية.
كلنا معاً في تظاهرة عيد العمال العالمي، الأحد في 9 أيار الساعة 11:00 صباحاً، انطلاقاً من ساحة رياض الصلح، مروراً بجمعية المصارف وكهرباء لبنان، وصولاً إلى المرفأ.
عاش الأول من أيار. والمجد والخلود لشهدائه الأبرار.

*الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني - افتتاحية العدد الحالي من «النداء»

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا