الساعة الثانية بعد منتصف الليل، أقرأ على ضوء خافت في حديقة منزلي في جبل اللويبدة بعمان. فجأة، انطلقت أصوات صاخبة؛ بضعة زعران قرروا أن يدبكوا أمام حديقتي، ويهتفون: «ارحلْ ارحلْ يا بشّار»! كان ذلك، في إحدى ليالي حزيران 2011. وقتذاك، كان الصامدون في مواجهة الربيع الأميركي ــ الرجعي ــ العثماني يُعدّون على الأصابع.
حتى أنصار الحركة الوطنية كانوا مأخوذين بالشعارات الليبرالية، وبالدعاية السوداء لفضائية «الجزيرة».
بالنسبة إلي، سعدتُ، بالطبع، بسقوط النظامين التونسي والمصري، وبتصاعد الحراك الشعبي الأردني. لكن، حالما بدأت المواجهات في سوريا، أدركت أن المنطقة كلها دخلت في مأزق. سأستعير، هنا، عبارة للزميلة شرمين نرواني، تلخّص موقفي وقتها: إن شرط نجاح الثورة العربية، هو، بالتحديد، فشل «الثورة السورية». لماذا؟ لأن الثورة العربية، مشروطة، بنيوياً، بثلاثة عناصر مترابطة: (1) المقاومة، (2) والتنمية والديموقراطية الاجتماعية ومكافحة الفساد، (3) والحريات العامة، بما فيها الحريات الاجتماعية والثقافية والدينية والشخصية والسياسية. وحين تنحصر «الثورة» في مطلب الحرية السياسية فحسب، ضد الحريات الأخرى، وتتجاهل العدو الإسرائيلي، بل وتتفاهم مع الاستعمار الأميركي، وتغفل البرنامج الاقتصادي الاجتماعي التقدمي؛ فهي لا تعود ثورة إطلاقاً، ويمكن، عندها، أن نلاحظ أن شعار «الحرية» يعني حرية إلغاء الآخر، وحرية الارتماء في أحضان الامبريالية والرجعية، وكما اتضح في ما بعد، حرية القتل والتدمير والسبي وجهاد النكاح، إلى آخره ممّا عايشناه خلال أربع سنوات ونصف السنة من الفجيعة.
في أوائل الأسبوع الثالث من انطلاق التآمر على سوريا، اتصلت بي مديرة مكتب فرانس برس في عمان، الزميلة رنده حبيب؛ سألتني، باعتباري «خبيراً في الشؤون السورية»، سؤالاً كان يدور على الألسنة: متى سيسقط النظام؟ كان ذلك وقت سقوط الأنظمة كالثمار الناضجة. أجبتها: لن يسقط أبداً. كانت إجابتي ضفيرة من التحليل والإيمان والقرار النضالي.
كان عليّ، في تلك الأشهر الطويلة من القلق والألم والإصرار، أن أقوم بعدة مهمات، اجتماعها، معاً، يُثقل الكاهل. فبإضافة إلى مواجهة سيل التهديدات والاستفزازات، كان عليّ أن أحلّ عدة مشكلات فكرية سياسية؛ فأوّلاً، أنا منخرط في الحراك الشعبي الأردني. فكيف، إذاً، أرفض ما بدا أنه حراك شعبي في البلد الجار؟ وثانياً، كان لا بد من خوض نقاشات متواصلة مع رفاق وطنيين وقوميين ويساريين، أخذتهم الموجة الليبرالية إلى شواطئ ليست شواطئهم. وثالثاً، كان علينا، نحن القلّة المؤيدة للدولة الوطنية السورية، أن ننظّم نشاطات تضامنية مع دمشق.
وجدنا الحل في خطابٍ للحركة الوطنية والعشائر، ركّز على حقيقة أن سقوط الدولة السورية سوف يؤدي إلى سقوط الدولة الأردنية في أيدي الإخوان المسلمين، وتنفيذ مشروع الوطن البديل والدولة البديلة، بثوب إسلامي «ديموقراطي». الصدام العشائري ــ الإخواني منح الحركة إطاراً للتحالفات. وفي المقابل، كان لا بد من منح الحراك الأردني شعاراته التي لا تتعارض مع خط الدفاع عن سوريا؛ قررنا وضع البرنامج الليبرالي جانباً، وخوض معركة فكرية سياسية ضده، والتركيز على أربعة بنود: مكافحة الفساد ــ أردنيا وسورياً ــ والتنمية، ومركزية الصراع مع إسرائيل، والحريات المدنية المهددة من قبل الإسلاميين.
بعيد سقوط الإخوان المسلمين في مصر، تغيّرت سياسات النظام الأردني؛ أمن شرّ الإخوان، وشعر بأنه لم يعد بحاجة إلى مساندة الحركة الوطنية ضدهم، وأصبح أكثر حريّة في تقديم خدمات التدخل شبه العلني والعلني ضد الدولة السورية. وبدأ، بذلك، مسار آخر من الصعوبات والتحديات.
في آذار 2012، اتفقنا، إبراهيم الأمين وأنا، على الشروع في مواجهة فكرية للمشروع الرجعي المندفع. أعطيت وجداني كله لإنتاج أفكار مضادة للتحالف القائم بين اليسار الليبرالي والرجعية. وقد غيّرتني هذه التجربة كلياً، ونقلتني إلى تبنّي الفكرة المشرقية.
لا أعرف كيف مرّت كل تلك السنوات والأشهر والأيام على قلبي الذي احترق، ولا أعرف كيف ظل عقلي صاحياً وبارداً، رغم جلطتين وتوتر مستمر وقلق... كان عليّ، دائماً، أن أخفيه، لئلا ينكسر ولداي ورفاقي الشباب.
منذ طفولتي، لم أفرّق في الحب بين الأردن وسوريا؛ هما، عندي، كما كانا دائماً، بلد واحد. ومنذ وعيت، كانت دمشق هي جداري. مرت الحروب والهزائم من كامب ديفيد إلى أوسلو إلى وادي عربة، من احتلال بيروت إلى احتلال بغداد، من دون أن تمس اطمئناني. ما دامت سوريا باقية، فكل شيء قابل للتصحيح. لذلك، عندما أحاق الخطر بالبلد الحبيب، تملّكني هاجس النهاية. كان يجب أن تنتصر سوريا لكي يبقى للحياة والأفكار والنضال، معنىً، لكي نواصل القدرة على العشق والكتابة، لكي نسمع فيروز في الصباحات، ونعزق فتيت الخبز للعصافير، ونسقي الفل والياسمين، ونقرأ الشعر، ونحس لذّة اليانسون في كأس العَرق.
عشيّة النصر، أفكّر في كل تلك الليالي من أرق التوقعات التي توشك أن تنتهي. أفكّر في الشهداء والجرحى، وأخجل لأنني لست شهيداً. غير أن ما يعزّيني أنني أستطيع أن أردّد مع أمل دنقل:
فاشهدْ يا قلمْ
أننا لم ننمْ
أننا لم نضعْ
بين لا ونعم!