قد يمرّ خبر إقامة «تكريم» في الولايات المتحدة مرور الكرام بصرف النظر عن هوية المكرَّمين والمنظّمين. حدث أكثر من روتيني، لولا أنّ تبعات عملية «طوفان الأقصى» والإبادة الجماعيّة المرتكبة في غزة كشفتا عن الوجه المستتر للديموقراطية الأميركية التي تدعم رأياً دون الآخر، وإن في مناسبة بعيدة كلّ البعد عن السياسة. الأخ الأكبر يراقب كلّ شيء. لكلّ كلمة ثمنها، وكلّ موقف إدانة.طوال مسيرته المهنية، حاور الإعلامي اللبناني، ريكاردو كرم، شخصيات لبنانية وعربية وعالمية عدّة. وفضلاً عن المحتوى الذي يقدّمه، يتميّز برصانة الحديث وأناقة اختيار الكلمات ودفء الصوت. ويتفرّد بهدوءٍ ربّما لا يستهوي مجتمعاً يفضّل الصخب ويسعى خلف التشويق على حساب المضمون. وصف كرم ليس مديحاً، بل ممرّاً إلزامياً للغوص في صلب الموضوع. فكرم البعيد عن التهوّر في الحديث، يؤكّد أنّ إلقاء الخطاب كان «صعباً» أثناء زيارته الأخيرة إلى أميركا وأنّ ما يحدث ليس بسيطاً.
التمس الصعوبة في أواخر الشهر المنصرم في مدينة بوسطن، خلال فعاليات مبادرة «تكريم أميركا» التي تهدف إلى الاحتفاء بأسماء من أصولٍ عربيّة لمعت في الأميركيّتين، وأسهمت في خدمة مجتمعها والعالم في ميادين مختلفة. وهي مؤسّسة شقيقة لـ «تكريم» التي تأسّست عام 2009، وإن كانتا مختلفتين وتعمل كلّ منهما وفقاً لأطر ومعايير خاصة.
«أنت في أميركا»، يقول كرم في حديثه عن الحدث. عادةً ما تُستتبع هذه الجملة بأوصاف مثل بلاد الحرية والفرص وغيرها من التعابير التي تمجّد القيم والطريقة الأميركية في الحياة. لكن أن تكون في أميركا في هذا الزمن بالنسبة إلى كرم يعني أنه «لم يعد من السهل التعبير. حضر الاحتفال نحو 500 مدعو ينتظرونك لتُخطئ بكلمة. يسود خوف كبير وجوّ بوليسيّ. والكلام كالسير بين الألغام».
عاد كرم بالذاكرة إلى زيارته الأولى إلى الولايات المتحدة في شبابه. كان عبور الأطلسي بالنسبة إليه أكثر من مجرّد فاصل جغرافي بين عالمين: «كان يوماً مهماً في حياتي. سأزور الدولة التي تجسّد أحلام كلّ منا. أميركا التي تأثّرنا بها عبر الأفلام والمسلسلات. فتُصدم بما تشاهده الآن وكم هو مغاير عمّا كنت تعتقده».
درس كرم في «الجامعة الأميركية في بيروت» التي «علّمتني حرية الفكر والرأي والتعبير والنقاش، كما توصي الجامعات في أميركا». التمسَ كرم هذا التغيير على أرض الواقع وليس عبر الشاشات، فضلاً عن كيفية التعامل مع الاحتجاجات الطلابية الداعمة لفلسطين. وكانت المفارقة تزامن الاحتجاجات مع انعقاد منتدى TAKminds، وهو منصّة منضوية تحت لواء «تكريم»، في «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا» (MIT) الذي شهد تحرّكات طلابية واسعة. تجمّع في المنتدى صنّاع التغيير والمواهب الجديدة لمقاربة تحديات العالم المعاصرة ومعالجتها.
في حرم الجامعة نفسها، تزامن لقاء بين العقول المبدعة وتحرّكات قامعة لحرية التعبير! تناقضٌ يرى فيه كرم بريق أمل: «الجيل الجديد عظيم، وليس فقط الجيل العربي. ومن أهمّ الركائز في الجامعات أن تختلط بزملاء لك من دون أن تعرف إلى أيّ ديانة ينتمون أو في أيّ يوم يصلّون وكيف. وتُعدّ الجامعات الأميركية مثالاً على هذا التنوّع. يحمل الطلاب المتظاهرون جنسيات مختلفة، والكثير منهم من الديانة اليهودية ويرفضون العنصرية والإبادة والذلّ والقمع. فبعد أن أُهملت القضية الفلسطينية وتعرّضت للتعتيم لمدة طويلة، ها هو الجيل الجديد يُعيد إحياءها». لا يتناقض هدوء كرم مع الشجاعة والالتزام والتمسّك بقناعاته. «الحرية خيار وقرار. ألتزم به حتى النهاية. أنا لا أخاف على نفسي بل على العاملين والمسؤولين والأعضاء ومجلس الأمناء في المؤسسة، ولا أريد إقحام أحد في المشكلات. فهم يحملون الجنسية الأميركية ويعيشون في البلاد، لذلك اخترت كلماتي بعناية. يسود جوّ من الخوف هنا. يتحسّر الكثيرون في مجالسهم الخاصة ويحزنون إذ يرون أنّ لا قدرة لهم على فعل شيء، ولا سيما بوجود مصالحهم وأعمالهم وعائلاتهم»، يقول.
يسود خوف كبير وجوّ بوليسيّ (ر.ك)


حتى الفنّ لم يسلم من القمع! بدلاً من تكريم الفنانة والباحثة الفلسطينية الأميركية، سامية حلبي (87 عاماً)، في بوسطن، كُرّمت في موناكو على بُعد آلاف الكيلومترات في احتفال الربيع السنوي لـ «تكريم»، لكي «تعبّر بحرية عمّا ترغب بقوله». جاء ذلك في وقت ألغت فيه «جامعة إنديانا» معرضاً استعادياً لحلبي المولودة في القدس وتُعدّ من روّاد الفن التجريديّ وفن الديجيتال الحركيّ، بسبب مواقفها ومنشوراتها الداعمة لفلسطين على حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي.
ويكشف كرم أنّه يعرف «أشخاصاً كثيرين يملكون لوحات لفنانين بارزين، أزالوها من بيوتهم وخبّؤوها كونها تزعج أشخاصاً أو معارف من ميول مختلفة، ولا سيما أنّ أعمالاً فنية كثيرة تجسّد القضية الفلسطينية. لكنني أعتقد أن هذه الإجراءات مرحلية. ما يحدث اليوم سيحثّ الفنانين على القيام بنشاط أوسع والاستلهام بشكلٍ أكبر، وإن لاحقاً... فليس من الضروري أن يكون الإبداع وليد الساعة».
كما أنّه يرى أنّ كلّ تلك الأحداث وتبعاتها «ستعزّز جهود «تكريم» ومساعيها إلى تكريم طاقات تستحقّ الصدارة وتمنحنا الأمل». ومن هنا، أتى على ذكر دور لبنان وأهميته، إذ يشدّد على أنّنا «نملك حرية فريدة من نوعها وهي من النعم التي يجب أن تدفعنا إلى التمسّك ببلدنا».