غزة | مرّت عشرة أيام على إعلان الولايات المتحدة عن تشغيل الرصيف البحري المؤقّت على سواحل وسط قطاع غزة، فيما لم تتجاوز كمية البضائع والمساعدات التي أعلن المتحدث باسم البنتاغون إدخالها خلال تلك المدة، 569 طناً، لم يجر حتى اليوم توزيع أيّ منها على مناطق القطاع، التي يعيش بعضها، وخصوصاً في الشمال، نُذُر مجاعة جديدة. كما لم تحدّد فصائل العمل الوطني أي موقف جذري إزاء المشروع، الذي تُظهر الصور الأخيرة، أن القوات الأميركية استجلبت إليه عربات عسكرية ومنظومات دفاع جوي، بينما تتخذه القوات الإسرائيلية نقطة حماية آمنة، على اعتبار أن المقاومة لن تبادر إلى استهداف القوات الأميركية في هذه المرحلة، تحديداً بقذائف الهاون.والحرج من إعلان مواقف جذرية من المشروع الذي كشفت مصادر إسرائيلية أنه أساساً مقترح قدّمه رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو ،في تشرين الأول الماضي، مرده أن الميناء يمثّل في الوقت الحالي البوابة الرئيسية لإدخال المساعدات إلى القطاع، بعد أن فرض جيش العدو وقائع ميدانية انتقلت بالرصيف من كونه منفذاً ثانوياً سيعمل رديفاً للمعابر البرية التقليدية، إلى المسار الرئيسي لإدخال المساعدات، ولا سيما بعد اقتحام مدينة رفح، وإغلاق معبري كرم أبو سالم وبوابة صلاح الدين، ثم التوغّل الواسع في شمال القطاع، والذي تسبّب بإغلاق المنفذ المستحدث القريب من معبر بيت حانون (إيرز).
والجدير ذكره، هنا، أن كمية المساعدات التي تمّ إدخالها عبر الميناء، يمكن لمعبر بري واحد أن يسمح بدخول خمسة أضعافها في غضون يوم عمل واحد، وهو ما ينفي عن «اللسان البحري»، سمة العملانية. وعلى رغم ذلك، ليس في وسع أحد في هذا التوقيت بالذات، أن يعلن رفضه للمشروع، مع كل ما يحيط به من شبهات؛ ببساطة، لأن أي موقف مصحوب بجهد ميداني، سيبدو وكأنه يستهدف تضييق الخناق على الأهالي في شمال القطاع وجنوبه. على أنه في حسابات فصائل المقاومة، لا تحضر النية الحسنة مطلقاً؛ فالأيدي الأميركية التي تمدّ جيش الاحتلال بالقنابل والقذائف جواً، وتوفّر الغطاء السياسي لاستمرار الحرب، لا يمكن أن تكون على شاطئ القطاع، وبالقرب من موقع «نتساريم» المستحدث، حملاً وديعاً. ومن هنا، تدور التقديرات عن الأهداف التكتيكية والاستراتيجية لهذا المشروع حول جملة من الهواجس:
أولاً: في المدى القريب، لا يخلو تشغيل المسار البحري في نقل المساعدات، ومن خلال ميناء أسدود المحتل، من اتجاه أميركي - إسرائيلي خبيث، يسعى لتعطيل الضغط الذي تقوم به القوات المسلحة اليمنية في البحار والمحيطات، حيث من المتوقّع أن يعطّل توسّع عملية رفح، أي إمكانية لدخول البضائع والمساعدات من معبر كرم أبو سالم في جنوب القطاع. ولن يتورّع الجيشان الأميركي والإسرائيلي عن الزعم، أن أي سفينة ستُستهدف وهي في طريقها إلى الموانئ الإسرائيلية، كانت تحمل مساعدات لأهالي القطاع الذين يعيشون المجاعة. وعليه، ستظهر حركة «أنصار الله» التي كانت ولا تزال فوق الشبهات، في رأي الشارع الغزي، وكأنها تضيّق الحصار على غزة.
الهدف الأساسي إضعاف سيطرة حركة «حماس» على الحياة المدنية في القطاع من دون قتال


ثانياً: كرّر القادة الأميركيون، خلال الفترة الماضية، حديثهم عن مقترحات قدّموها إلى مجلس الحرب الإسرائيلي، من شأنها إضعاف وتقويض سيطرة حركة «حماس» على الحياة المدنية في القطاع، من دون اللجوء إلى مواصلة القتال. وتظهر هنا المساعدات العاجلة، ومخطّطات إعادة الإعمار، وكل ما ستكون غزة بحاجة ماسة إليه في فترة ما بعد وقف إطلاق النار، كأهم الأدوات والوسائل لتحقيق ذلك، حيث يسعى الأميركيون إلى مضاعفة نفوذهم المدني والإداري المباشر في القطاع، عبر تشكيل جسم إداري بديل، قوامه المؤسسات الدولية وجهات محلية لا علاقة لها بحركة «حماس»، ستتولى تأمين وتوزيع وتوصيل المساعدات ومتطلّبات إعادة الإعمار إلى الأهالي الذين سيتم تنظيم شؤونهم من خلال جهات مهنية لا تعارض إسرائيل عملها. ويعني ما تقدّم، نزع أقوى أوراق القوة، ليس من «حماس» فقط، بل أيضاً من سلطة رام الله، التي يخشون أن تنسّق جهودها مع القوة التي تسيطر فعلياً على الأرض. وسيسمح هذا المنحى، بتشكّل جهات إدارية رديفة، سيكون من الصعب على حركة «حماس» تقويض عملها، لأنها ستكون في حينه في مواجهة مع الشارع الذي لا يمتلك 80% منه سقفاً يؤويه، أو قطرة مياه نقية، أو أي رعاية صحية وتعليمية.
ثالثاً: يمنح الجهد الإغاثي الأميركيين والإسرائيليين فرصة لرفع مقبولية الدور الأميركي في مختلف المستويات، على الصعيد الداخلي الغزاوي، وحتى على الصعيد الأميركي الداخلي الذي تحتاج إليه الإدارة الأميركية، والمستوى الدولي الذي يحتاج إليه الأميركيون والإسرائيليون. ببساطة، ستبدو الحرب المستمرة، وكأنها تكافح جسماً موازياً للشارع الغزاوي الذي يعتني به الأميركيون إنسانياً وإغاثياً.
رابعاً: يشكّل الميناء العائم، في حال جرى تطويره ليصبح منفذاً بشرياً، يسافر منه أهالي القطاع، ورقة ابتزاز وعقاب للسلطات المصرية، التي أعلنت موقفاً واضحاً عطّل مسار ترحيل سكان القطاع إلى شبه جزيرة سيناء. وسيحرم المصريين من أقوى أوراق حضورهم السياسي في المنطقة، ويعطي الأميركيين صلاحية التدخل المباشر في أدق شؤون حياة سكان القطاع، كما يعيد تشكيل مراكز القوى الإقليمية المؤثّرة في المنطقة، بما فيها تركيا وقطر، لمصلحة الأميركيين حصراً ومن يرتضي العمل معهم من أدوات يمكن الركون إليها في المرحلة المقبلة. ويظهر الإماراتيون على أنهم الأكثر استفادة في هذا الصدد، كونهم المموّل الأول للمشروع، ومن يمتلكون جسماً فلسطينياً موالياً مستعداً للقيام بأي دور على المقاس الأميركي - الإسرائيلي، وعلى رأسهم القيادي المفصول من حركة «فتح»، محمد دحلان.
خامساً: يُضاف إلى كل ما سبق، أن مضاعفة الدور الإغاثي الأميركي والإسرائيلي، تسعى لمواجهة رواية «حماس» القائمة على المظالم والانتقام، وبناء رواية مقابلة تتّهم الحركة بأنها المسبّب الرئيسي لنكبة سكان القطاع ومعاناتهم.
في محصّلة الأمر، يشكّل مشروع الرصيف البحري، أول ملامح الحرب الأميركية - الإسرائيلية المستدامة على منجزات «طوفان الأقصى». وهنا، تبدو سخرية الغزاويين من فكرة بناء ميناء بـ300 مليون دولار، بهدف إدخال معلّبات الفاصولياء والفول، محقّة، إذ إن للمشروع الذي كرّر الأميركيون مطالبتهم كل الأطراف الفاعلة بعدم التدخل في آلية عمله وتوزيع المساعدات التي ستدخل من خلاله، أهدافاً أكثر استراتيجية وعمقاً، حيث يراهن كل من الأميركيين والإسرائيليين، على أن الشارع الغزاوي الذي أنهكته الحرب، سيكون بيئة خصبة تستجيب لكل ما يُملى عليها. لكن تلك الطموحات، دونها تجارب سابقة استخدمت أدوات أكثر فعالية، ليس في الضفة الغربية فقط، إنما في القطاع الذي أُعدّت لأهله منذ حقبة السبعينيات، خطط أكثر خبثاً وخطورة، نجحت في تحقيق اختراق آني مرتبط بالحاجة الملحّة، لكن سرعان ما تبدّدت على المدى البعيد. وفي النهاية، لن يكون بمقدور الإسرائيليين والأميركيين، محو صورة المجازر التي ارتكبوها خلال هذه الحرب، من ذاكرة جيل كامل من الأيتام، سيعيش حياته حالماً بمستقبل، لا يحوي إلا عنواناً واحداً، هو الثأر.